abdelmalek laclasse
عضو جديد
- البلد/ المدينة :
- setif
- المُسَــاهَمَـاتْ :
- 2
- نقاط التميز :
- 11
- التَـــسْجِيلْ :
- 05/11/2014
آداب النصيحة والناصح الظاهرة
للنصيحةِ طرفانِ: الناصح والمنصوح، وقد عَلَّمَنا حديثُ المرآة[1] أنَّ هذين الطرفين إنَّما هما في الحقيقةِ طرفٌ واحدٌ إذ إنَّ مكانة المؤمن من أخيه المؤمن تتفق تمامًا مع مكانة المؤمن من نفسه، فإن استطعنا أن نصل بالواقع إلى هذا التنظير النبويّ المبارك[2]؛ فإنَّ النصيحة حينئذٍ ستشرقُ آدابها من داخلها كما يشرقُ نور الشمس، وسيأتي بها الناصح والمنصوح سجيَّة وفطرةً بلا تكلُّفٍ ولا معاناةٍ. ويمكننا القول: إنَّ التفريط في آداب النصيحة من أحد طرفيها أو كليهما إنَّما يكون بقدر النقص في تطابُق الطرفين على بعضهما، وربَّما لهذا المعنى كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يوصي أصحابه: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم»[3]، وصية واحدة لا يحتاج معها المرء لسرد الصفحات المسوَّدةِ في بيان آداب النصيحة، وليعلم النَّاصحُ أنَّه مُطالَبٌ بالبلاغ المبين، فإن جاء به استقامَ له الـمِعوجُّ، وسلس له قياد الحرونِ، وليعلم المنصوحُ أنَّه مَن تواضع لله رَفعَه الله، ومن أرفع الرِّفعة في الدنيا الهدايةُ إلى الحقِّ، والتوفيقُ إلى العمل به، وأنَّ أخاكَ مَنْ صَدَقَكَ لا من صدَّقكَ.
وها نحنُ نأخذُ من كلِّ نبعٍ بأعذبه، ومن كلِّ روضٍ بأطيبه، منشرحين صدرًا بقول ربِّنا: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55].
آداب الناصح:
الآداب الظاهرة:
(أ) آداب ما قبل النصيحة:
1- التحري والتثبت فيما تنوي مُناصحته بشأنه: فقد يبني الناصح أفكارًا على أوهامٍ، وقد يتلقى الأخبار بلسانه في غَيبةٍ من عَقله، ويرى الأحداث ببصره في مَعزِلٍ عن بصيرته، وقد يُهمِلُ التحرِّي فيما ينقله الرُّواة، وما آفة الأخبار إلا رواتها، وهو لا يدري.
قال رجل للأحنف بن قيس: أخبرني الثقة عنك بسوء. قال: الثقة لا ينمّ.
واعلم أنَّه قد يكون لفِعل أخيك محملٌ حسنٌ لا يُشينه بل يزينه، وقد يكون أخوك متأوِّلًا أو مُريدًا للخيرِ بعمله من الجهة التي يحسبها صوابًا، ولذلك يجب على الناصح أن يضع نفسه مكان المنصوح كأنَّه ينصح نفسه. وكم من مشاكل وقضايا شائكة متعصِّية على الحلِّ متأبية على الساعين للإصلاح كان يمكن أن تُحلَّ لو أنَّ أحدهم فكَّر بالطريقة التي يُفكِّر بها من يظنُّونه مُخطئًا.
2- الاجتهاد في الإلمام بحال المنصوح وملابسات أمره، وتحرِّي الزمان والمكان والأسلوب الأمثل لدعوته. وما أجمل قول ابن مسعود -رضى الله عنه-: «إنَّ للقلوب شهوةً وإقبالًا، وفترةً وإدبارًا، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها».
(ب) آداب أثناء النصيحة:
1- الأصل في النصيحة الإسرار: من بليغ الحكمة قولهم: النصيحةُ أمنُ الفضيحة، وصدقوا.
وارجع إلى اشتقاق النصيحة من خياطة الثوب تعرف أنَّ النصيحة استعيرت مما ستر العورة. وما ينصح الناصح إلا ليفوِّت مقصود الشيطان بهتك ستر أخيه وكشف عورته، فكيف يستحلُّ هو أن يفعل؟! وقيل: النصيحة في الملأ فضيحة. وكان شعار النبي -صلى الله عليه وسلم-:«ما بال أقوام؟» حتى غدت مثلًا. وكان السلف - رضى الله عنهم - إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سرًّا؛ حتى قال بعضهم: مَن وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه.
وقال الفضيل بن عياض -: المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويعير.
وقال عبد العزيز بن أبي رواد: كان مَن كان قبلكم إذا رأى الرجل من أخيه شيئا يأمره في رفق فيؤجر في أمره ونهيه، وإنَّ أحدَ هؤلاء يخرق بصاحبه فيستغضب أخاه ويهتك ستره.
وقد يضطر الناصح أن ينصح علانيةً – كما وقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه - وذلك في الأمور المحتملة التي لا يجوز تأخيرها، كالتعليم ومنه ما حدث مع الصحابيّ الذي جاء يوم الجمعة والنبي -صلى الله عليه وسلم- على المنبر فجلس من غير أن يُصلِّي تحية المسجد فأمره النبي بالصلاة، ومثلما حدث في صلاة العيد حينما بدأ مروان بالخطبة قبل الصلاة – على خلاف السنة – فقام رجلٌ فأنكر عليه على الملأ.
كذلك؛ هناك أمورٌ لابد فيها من إظهار الغضب لله، قالت عائشة رضي الله عنها: عن عائشة قالت: «ما لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسلمًا من لعنة تذكر، ولا انتقم لنفسه شيئًا يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله عز وجل، ولا ضرب بيده شيئًا قطُّ إلا أن يضرب بها في سبيل الله، ولا سئل شيئًا قط فمنعه إلا أن يسأل مأثمًا؛ فإنه كان أبعد الناس منه، ولا خُيِّر بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما»[4].
ولو انتقلنا إلى المستوى الذاتيّ الشخصي، فإنَّ الإسرار هو الأصل في هذا النوع من النُّصح أو النقد الذاتيّ، لأن ذلك أَدْعى للإخلاص، فلا يجمل به أن ينصح نفسه على الملأ إلا فيما قد يستوجب ذلك من نوادر الأحوال.
وقد أشار السلف لهذا المعنى الدقيق؛ فقال الحسن -: ذمُّ الرجل لنفسه في العَلاَنية مَدْحٌ لها في السريرة. وقالوا: مَن أظهر عَيْبَ نفسه فقد زَكّاها، والله نهانا عن تزكية النفس فقال: ﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32].
ومن جوامع الكَلِم قول ميمون بن مهران -: من أساء سرًّا، فليتب سرًّا، ومن أساء علانيةً، فليتب علانية، فإن الناس يعيِّرون ولا يغفرون، والله يغفر ولا يعيِّر.
أمَّا الحالات التي يجب فيها نصح النَّفس علانيةً؛ فمنها:
• أن يكون ذا خطأ مشهورٍ مُتَّبعٍ، فلابد له أن يتراجع ويتوب على الملأ؛ لئلا يغترَّ به مُغترٌّ، ولئلا يُشنَّع عليه بالظنِّ. ويتأكَّد هذا في حقِّ الرءوس الـمُتصدِّرين المتبوعين أو في حقِّ مَن كَتَمَ حقًّا مُتعمِّدًا، لقوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 159، 160]، وفي هذا علاجٌ ناجِعٌ لتعصُّب الأتباع والـمُقلِّدة، إذ إنَّ بعضهم يصل به الغلوُّ إلى أن يضع شيخه ومتبوعه على المستوى الفردي، وجماعته على المستوى الأوسع؛ في رتبة المعصومين!
وقد حفل التاريخ الإسلامي بمراجعاتٍ مشهورةٍ لأئمةٍ كبارٍ ضربوا أروع المثل في النقد الذاتيّ ومحاسبة النفس، منهم: الإمام أبو الحسن الأشعري، وإمام الحرمين أبو المعالي الجويني، والإمام الحجة أبو حامد الغزاليّ.
• أن يكونَ قُدْوةً فيفعلُ ذلك أمام الناس المرة والمرتين من باب التوقيف العمليّ على خُلق المحاسبةِ والمراجعة والنقد الذاتيّ ليقتدي به مُقتدٍ ويتعلَّم مُتعلِّمٌ على سبيل نجاةٍ.
2- الرفق عند النصح: أرسل الله عز وجلَّ رسوليه الكريمين موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون، وما أدراكَ ما هو! فقال لهما: ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 43، 44]، وقال مُذكِّرًا نبيه -صلى الله عليه وسلم- بمفتاح القلوب: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]، ومن الشواهد العملية على ذلك أنَّ أعرابيًّا بال في المسجد، فهمَّ به الصحابة فأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بتركه وعلَّم الرجل تعليمًا رفيقًا رقيقًا وقال لأصحابه «إنَّما بُعثتم مُيسِّرين ولم تُبعثوا معسِّرين»[5]، وفي موقف آخر يأتيه شابٌّ يستأذنه في الزنا، فيهمُّ به الصحابة، ولكنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- الحريص على أمته يتلقَّفه بمِبضع الجرَّاح الماهر الذي لا يُحسُّ معه المريض بأيّ ألمٍ، فيخرج الشابُّ وقد برأ من علَّته بإذن الله.
وها هي عائشة الصدِّيقةُ الحبيبةُ لا تملكُ نفسها من الغضب إذ سمعت اليهودَ يقولون للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقد دخلوا عليه: (السام عليك)، وتحت وطأة الغضب تقول: السام عليكم يا إخوان القردة والخنازير ولعنة الله وغضبه! فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ؛ مَهْ!». فَقَالَت: يَا رَسُولَ اللَّه؛ أَمَا سَمِعْتَ مَا قَالُوا؟ قَالَ:« أَوَمَا سَمِعْتِ مَا رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ يَا عَائِشَةُ؟ لَمْ يَدْخُلْ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَمْ يُنْزَعْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ»[6]. حتى مع اليهود لا يتخلَّف الرفق!
3- الحكمة والموعظة الحسنة، فإن احتاج النُّصح إلى جدالٍ فليكن بالتي هي أحسن: وقد قيل في معنى الحكمة كلامٌ كثيرٌ متقاربٌ، يكفينا منه الآن أنَّ الحكمة هي: وضع الشيء في موضعه، فالكلمةُ لها موضعٌ قد لا يصلح فيه غيرها، وقد لا تصلح كلمة اليوم فيما صلحت به بالأمس، فلكلِّ مقامٍ مقالٌ، ولكل قلبٍ مفتاحٌ، وإن تمَّت النصيحةُ بإشارةٍ فالكلمة فضولٌ، وضررها أكثر من نفعها؛ كالطعام الزائد عن حاجة البدن يضر ولا ينفع، وإن تمَّت النصيحةُ بكلمةٍ، فالثانيةُ لا مساغَ لها، وإن أفلح التعريض فالتصريحُ أذى، هذا من عين الحكمة.
ومِن الحكمةِ أنَّكَ إذا اضطررت للهدم، فلابدَّ أن تضع قبله خُطَّة البناء. نعم؛ قد يحتاج الناصح لهدم ما لابدَّ من هَدمه، ولكن فليعلمْ أنَّ من تمام نُصحه أن يقيمَ بناءً جديدًا على أسسٍ سليمةٍ، وهذا هو جوهر رسالة الأنبياء، هدم الشرك فإقامة التوحيد، وهو جوهر ما ورَّثوه للعلماء الربَّانيين من بعدهم. مَن منَّا لا يرى بعين قلبه هذا العالم الربَّانيَّ وقد وقف عليه قاتل المائةِ يسأله عن التوبة، فيقول له بهدوء المؤمن الواثق: نعم؛ ومَن يحول بينكَ وبينها؟! ولكن اذهب إلى أرض كذا فإنَّ فيها قومًا يعبدون الله. هذا هو البناء، انظر كيف ركَّز العالم الربَّانيّ توجيهه ونصحه إلى الحلّ ولم يتوقف عند المشكلة، لم يقل: كيف قتلتَ مائة، لِمَ قتلتَ مائة؟ أينَ فعلت ذلك ومتى؟ أيُّ قلبٍ قاسٍ حملكَ على هذا؟ أنتَ وحشٌ غير آدميٍّ في مسلاخِ رجلٍ. أنت أداةُ قتلٍ تمشي على قدمين.. إلخ.
إنَّ مِن صُوَرِ رضانا من الغنيمة بالإياب؛ أنَّ البعض يريدُ أن يلبس ثياب النقاد وزيّ الوُعَّاظ الناصحين بأيِّ ثمن، فتراه يُعارِض من أجل المعارضة وينقد من أجل النقد، ويركِّزُ على المشكلة ولا يطرح حلولًا، فإن سألته عن حلٍّ قال: ها ها لا أدري!
ومن الحكمة أن تُقدِّمَ بين يدي نصيحتك بذكر بعض ما في منصوحكَ من الخير، وليكن شعارك: «نِعمَ الرجُلُ عبد الله، لو كان يُصلِّي من الليل». ولا تنسَ أن تُطيِّب خاطره بنداءٍ حسنٍ، وأن تتلطَّف في الوصول إلى قلبه، وانظر كيفَ يُعاتبُ الله / رسوله -صلى الله عليه وسلم ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [التوبة: 43]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التحريم: 1].
ومن الحكمة ألا تُشعِرَه أنَّك تنصحُه من بُرجِكَ العاجيِّ، وأنَّكَ معصومٌ من الخطأ، عصيٌّ على الزلل. أشعرْه أنَّك تتفهمُ موقفه ودوافعه، وأن التقصير والخطأ جائزان واردان على كلِّ أحدٍ. ومِن الحكمة ألا تشعره بأنَّك تفرض عليه أمرًا، بل سُقْه له مساق الرأي، واجعله يتوصَّل بنفسه إلى ما تريد أن تُوصِله إليه بأن تضعه على الطريق، فسيصلُ بإذن الله.
فإن لينت لك القلوب فاسجد لمولاكَ شكرًا، وإلا فرطِّبها بموعظةٍ حسنةٍ، وأذبْ قسوتها بحرارة الوعظِ التي تُستمَدُّ من الصدق والإخلاص، وتستوي على ساقها بالأسلوبِ الجيِّد المكتسبِ بالتكسُّب والتعمُّل، وإنَّ من البيان لسحرًا.
وإن اصطدمت حال نُصحكَ بقلبٍ تمكنت منه شبهةٌ فلا تيأسْ، عليكَ بالجدال الحسنِ حتى تستأصلها كما تستأصل النبات الطُّفيليّ الضارَّ دون أن تؤذي النبات الـمُستأنَس النافع، واعلم أنَّ الفاصل بين الجدال والـمراء المذموم شعرةٌ؛ فاحذرْ أن يتحوَّل النُّصح إلى جدلٍ عقيمٍ، تحتاجُ أن تُنصحَ منه بَدَلَ أن تنَصَحَ بِه!
ومن أحكم الحكمةِ أن تتلطَّف في نُصحِ ذوي الهيئة والوجاهةِ من الناسِ، وخصوصًا إذا جعل الله إليهم حاجاتِ الناس، كالسلطان وأصحاب الولايات ونحو ذلك، وانظرْ إلى حكيم يناصح ملِكًا يقول: «أيها الملك؛ إنَّ نصيحتك واجبة في الصغير الحقير، والكبير الخطير. ولولا الثقة بفضيلة رأيك، واحتمالك ما يسوء موقعه من الأسماع والقلوب في جنب صلاح العامة وتألف الخاصة، لكان خرقًا مني أن أقول، ولكنا إذا رجعنا إلى أن بقاءنا موصول ببقائك، وأنفسنا متعلقة بنفسك، لم نجد بدًّا من أداء الحق إليك، وإن أنت لم تسلني ذلك؛ فإنه يقال: مَن كتمَ السلطانَ نصيحتَه، والأطباءَ مرضَه، والإخوان بثَّه، فقد أخلَّ بنفسه. وأنا أعلم أن كل ما كان من كلام يكرهه سامعه لا يتشجع عليه قائله، إلا أن يثق بعقل المقول له ذلك. فإنه إذا كان عاقلًا احتمل ذلك؛ لأن ما كان فيه من نفع فهو للسامع دون القائل. وإنك أيها الملك ذو فضيلة في الرأي، وتصرف في العلم، ويشجعني ذلك على أن أخبرك بما تكره، واثقًا بمعرفتك نصيحتي لك وإيثاري إياك على نفسي»[7].
ومن ذلك ما يُروى أنَّ عمر بن عتبة قال للوليد بن يزيد حين تغيَّر الناس عليه: يا أمير المؤمنين؛ إنَّك تستنطقني بالأنس، وتُسكتني الهيبةُ لك، وأراكَ تأمنُ أشياء أخافها عليك، فأسكتُ مطيعًا، أم أقول مشفقًا؟ قال: قل. كلٌّ مقبولٌ منك، ولله فينا علمُ غيبٍ نحن صائرون إليه[8].
فينبغي لمن صحب السلطان ألاّ يكتم عنه نصيحته وإن استقلّها، وليكن كلامه له كلام رفق لا كلام خرق، حتى يخبره بعيبه من غير أن يواجهه بذلك، ولكن يضرب له الأمثال ويعرّفه بعيب غيره ليعرف به عيب نفسه.
دخل الزّهريّ على الوليد بن عبد الملك فقال له: ما حديثٌ يحدّثنا به أهل الشام؟ قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: يحدثوننا أن الله إذا استرعى عبدًا رعية كتب له الحسنات ولم يكتب له السيئات. قال: باطلٌ يا أمير المؤمنين، أنبيٌّ خليفةٌ أكرم على الله أم خليفةٌ غير نبيّ؟ قال: نبيٌّ خليفةٌ. قال: فإن الله/ يقول لنبيه داود عليه السلام: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26]، فهذا يا أمير المؤمنين وعيده لنبيٍّ خليفة، فما ظنك بخليفةٍ غير نبيّ قال: إنّ الناس لَيُعَرُّوننا من ديننا[9].
ومن أجمل ما نُوصِحَ به ذو سلطان ما يُروى عن الإمام الزّهريّ - أنَّه خرج يومًا من مجلس هشام بن عبد الملك فقال: ما رأيتُ كاليوم ولا سمعتُ كأربع كلمات تكلَّم بهنّ رجلٌ عند هشام بن عبد الملك؛ دخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين؛ احفظ عني أربع كلماتٍ فيهنّ صلاح ملكك، واستقامة رعيتك. قال: هاتِهِنَّ. فقال: لا تَعِدَنّ عِدَةً لا تثق من نفسك بإنجازها، ولا يغرنّك المرتقى وإن كان سهلًا إذا كان المنحدر وعرًا، واعلم أنَّ الأعمال جزاءٌ فاتق العواقب، وأنَّ الأمور بغتاتٌ فكن على حذر. قال عيسى بن دأب: فحدّثت الهادي بها وفي يده لقمة قد رفعها إلى فيه فأمسكها، وقال: ويحك أعد عليَّ! فقلت: يا أمير المؤمنين؛ أسغ لقمتك. فقال: حديثك أعجب إليّ[10].
(ج) بعد النصيحة:
ممَّا يجب على الناصح بعد النصيحة:
1- الحذرُ من الـمَنِّ والتعامل مع المنصوحِ كأنَّك صاحبُ فضل عليه ولكَ في رقبته جميلٌ.
2- الكتمانُ وعدم إفشاء سرِّ ما بينه وبين منصوحه، حتَّى وإن عرَض ما يُعكِّر صَفْو الأخوِّة بعد ذلك، فمن اللؤم وخساسة الطبع أن يُفشي المرء سرًّا لأخيه، وإن خاصمه.
3- تجنُّب الشماتة أو التعيير.
4- الصبر على ما قد يلحقه بسبب المناصحة من أذًى، فالناصحُ مُعرَّضٌ لذلك.
5- الشكر على منَّ الله عليكَ به أن أقامَكَ مقام الناصحين وذلك مقام الأنبياء والمصلحين، واشكر ربَّك أن استجاب لكَ منصوحُكَ، واشكر ربَّك أن وفَّقك للتخلُّق بالآداب التي يجب على الناصح أن يتخلَّق بها واجعل إمامَك قول ربَّك: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].
وما أنصحَ قول الإمام الشافعي:
واشكر جميل صنيعِ الله إذ جُعِلَتْ إليكَ لا لكَ عند الناس حاجاتٌ |
6- ولا يدخلْكَ العُجبُ من فضلك على منصوحكَ فيفسد عليك ثمرة ما فَضُلْتَ به.
[1] حديث «المؤمن مرآة المؤمن« ولنا معه رحلة ماتعة - بإذن الله - من خلال الباب الثالث من هذا الكتاب.
[2] ولا شكَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتفِ بالتنظير والتقعيد، وإنما كان بفعله ترجمةً عمليَّة مثاليةً، كيف لا وخُلُقه القرآن؟ فقد كان أنصح الناس وكان أكثر تخلُّقًا وتحقُّقًا بآداب النَّصيحة ناصحًا ومنصوحًا بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
[3] رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني في صحيح الجامع (ح7256).
[4] رواه أحمد والحاكم وصحَّحه على شرط الشيخين ووافقه الذهبيُّ.
[5] رواه البخاري وغيره.
[6] رواه أحمد.
[7] العقد الفريد
[8] انظر: البيان والتبيين (1/262).
[9] نهاية الأرب في فنون الأدب (6/13).
[10] نهاية الأرب (6/13).
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/65713/#ixzz3IxupXRYX