بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله , اللهم صلِ وسلم وبارك على شمس الجلال وقمر الجمال ونقطة دائرة الكمال وعلى اله وصحبه وسلم
قال تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا)
سبب النزول
نزلت ألآية الكريمة في أصعب المواقف وأحلك الظروف وذلك في مواجهة أهل الكفر والمشركين في معركة الأحزاب , فكان انقطاع الأسباب وسد أبواب الإمداد , أشارة إلى انقطاع حظوظ النفس من التعلق بالأسباب والخلق , ووجوب تعلق القلب بالمسبب سبحانه وتخليته مما سوى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم , ليكون بذلك سبب للثبات والنصر (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) فقرن نصرته لك وتثبيتك على النصر , بنصرك لدينه وامتثالاً لأمره فقد تجمعت وتكاتفت أحزاب الكفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دعوته وأنصاره حتى بلغ من حالهم قوله تعالى (وإذ زاغت الأبصار و بلغت القلوب الحناجر ) واصفاً لهم في ذلك الموقف فقال (هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدا ) وذلك البلاء (ليميز الخبيث من الطيب ) وبعد زلزلتهم وتمحيصهم أخرجت الأرض مكنوناتها وأثقالها الباطنة (إذا زلزلت الأرض زلزالها *وأخرجت الأرض أثقالها )أي بعد تزلزلها , لذلك بعد أن قال (وبلغت القلوب الحناجر)قال( وتظنون بالله الظنونا ) فكانوا ثلاثة فِرَق فِرقة ثبتت على الحق وفرقة قال فيهم (وإذ يقول المنافقون ) وفرقة (والذين في قلوبهم مرض ) فكان الذين تخلفوا عن مناصرته صلى الله عليه وسلم فريقين قال تعالى (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فأرجعوا ) فهذا الفريق لم يكتفي بأن تخلف بل أراد تحريض من ثبت ليتراجع عن نصرة الرسول فقرعهم الله أشد تقريع وفضح بواطنهم وكشف فساد قلوبهم واظهر نفاقهم لقولهم ( ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) أما الذين في قلوبهم مرض وافقوا المنافقين في قولهم ( ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا)
وفي من ثبت على الحق قال فيه سبحانه (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما)
وهنا إشارة : بعد أن ذكر سبحانه أهل النفاق والذين في قلوبهم مرض قال تعالى ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ...) ثم قال سبحانه في وصف حال المؤمنين (ولما رأى المؤمنين الأحزاب ...) فجاءت أية التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم الحد الفاصل بين المؤمن والمنافق ومن في قلبه مرض إذ أن من شأن الإيمان التصديق وحكم المحبة الإتباع.
قلت : وإن كانت تلك الحرب قد انتهت إلا أن معانيها قائمة ومعاركها بين جنود القلب والهوى دائمة , إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها
من حيث قوله صلى الله عليه وسلم ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر , قالوا وما الجهاد الأكبر يا رسول الله قال: جهاد النفس ) فكل قاطع عن الله ورسوله لك عدو قال تعالى على لسان خليله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ( فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ) بعد أن قال (أفرأيتم ما تعبدون انتم وأبائكم الأقدمون ) إشارة إلى أصنامهم , وهي كذلك إشارة إلى صورة أصنام الأكوان , وتزينها للنفس من الشيطان قال لعنه الله (ولأزين لهم في الأرض) مجال الاختبار والابتلاء
قال تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا) من حيث ان التأسي به صلى الله عليه وسلم عام وجامع لمراتب الدين إسلام , إيمان , إحسان , او تقول التأسي به صلى الله عليه وسلم , صورة, سيره , سريره
ومن كان في درجة الإحسان وقد شملته ألآية فهي كذلك تضم من هو دونه في المقام
قال تعالى (لقد كان لكم ) قلت هذا الخطاب موجه منه تعالى للمؤمن من حضرة رحمته سبحانه وتعالى (وكان بالمؤمنين رحيما ) لرعايته لهم وعنايته بهم ,وكأن لسان حالهم يدعوا (اهدنا الصراط المستقيم ) وإنما قلت لسان حالهم لأنه لم يكن لهم دعاء لسان إنما دعاء مقام وحال وهو المعول عليه قال تعالى (أمن يجيب الضر إذا دعاه) والإضرار حال , فأجابهم بقوله (لكم في رسول الله أسوة حسنه ) فقول سبحانه في رسول الله إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم ظرف للأسوة فدلهم على الرسول بداية ليستدلوا به على مكنون تلك الأسوة إذ هي (في رسول الله ) إشارة إلى حال باطنه صلى الله عليه وسلم , إذ التأسي به في أقواله , وأفعاله , وحاله , فلا يمكنك الولوج في أنوار حضرته صلى الله عليه وسلم إلا بعد الخروج من ظلمات النفس , أو تقول من ظلمات الوهم إلى نور الفهم , فالسلوك في الحضرة المحمدية سلوك قلبي في مراتب اليقين قال صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ) أو كما قال , فلا إيمان على وجه الكمال إلا بعد انقياد هوى النفس لما جاء به صلى الله عليه وسلم فقوله (حتى يكون هواه) إشارة إلى وجود هوى النفس إذ نسب الهوى له بقوله (هواه ) لكنه نبه إلى معالجته وترويضه بالإتباع فقال (حتى يكون تبعاً لما جئت به ) وذلك من حيث قوله تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم )
قال تعالى ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) قلت السر في الآم في بداية ألآية , إذ لو أسقطت لبطل التأسي به صلى الله عليه وسلم ولكان معناها يفيد الماضي وانقطع بذلك الاستمداد منه صلى الله عليه وسلم
فتصبح (قد كان لكم ) بصيغة الماضي فقوله تعالى (لقد كان ) التي تفيد الظرفية الوجودية الحاصلة , والآم في قوله (لقد) تفيد الماضي والحاضر والمستقبل فهي لآم استمرارية إستمداديه والشاهد في ذلك قوله تعالى (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم ) فذكر سبحانه الأسوة في سيدنا إبراهيم مقيدة بصيغة الماضي مفردة بقوله (كانت ), وقد قدم ذكر الأسوة على ذكر سيدنا إبراهيم وفي أية التأسي بالرسول عليهم الصلاة والسلام قدم ذكر الرسول وأخر ذكر الأسوة (المطلقة) بقوله (لقد كان ) إشارة إلى أن السير في الحضرة المحمدية على القدم الإبراهيمي , فقوله تعالى (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم ) فالخطاب لم يشمل الحبيب صلى الله عليه وسلم إذ هو صلى الله عليه وسلم الناطق على لسان الحضرة الداعي إليها (وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا) وهو إمام المرسلين عليهم جميعا الصلاة والسلام .
(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) إذا فهمت الخطاب زال الحجاب وكأن لسان الحضرة يقول وهبت لكم من رحمتي واودعتها في حبيبي ورسولي إليكم فاتبعوه لتنالوا حظكم وإرثكم من تلك العطية التى جعلتها في مستقر رحمتي (وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين) قال تعالى لحبيبه ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) قلت حب العبد لله واجب وليس فيه فضل للعبد قال ابو يزيد البسطامي –رضي الله عنه – ( اللهم لا عجب في حبي لك وانا عبدٌ حقير وإنما أعجب من حبك لي وأنت ملك قدير) فلا يعول على ما كان منك , انما المعتمد على ما كان منه , وفي ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (انما الله معطي وانا قاسم ) تلك ألمحآب ,وذلك هو الإرث المحمدي (قل ) من حضرة محبتك إيّايّ (إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) في حبي وهاكم أشربوا من كأسي (يحببكم الله ) التي هي غاية كل سالك وناسك وعبدٌ عابد قال البوصيري – رحمه الله - (وكلهم من رسول الله ملتمس *** غرفا من البحر أو رشفا من الديم )
فالتأسي به : أن ترضى لنفسك ما رضيه لك وما رضيه لك في قوله تعالى ( إن الله لا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم )
فظهر لك من المقصود بقوله تعالى (لكم ) من حيث قوله (لمن كان يرجوا الله واليوم الأخر) أي لمن كان مقامه الرجاء , وإنما قلت مقامه الرجاء لأن (لمن كان ) هي كذلك للتحقيق كما في بداية آلاية , أي (لمن كان ) حاله دوام الرجاء , فهو تخصيص بعد التعميم
فكل مكروه ومحبوب ينقسم على ثلاثة اوجه , إما موجود في الحال " فهو وجد وسمي وجداً من حيث انه حاصل موجود او أمر مضى " وهو تذكر وتذكار , او متوقع حصوله في المستقبل وغلب ذلك الظن على القلب فاصبح يقينا , وإخطار وجوده بالقلب يفضي إلى لذة واشتياق , فسمي ذل الارتياح ... رجاء : فالرجاء هو ارتياح القلب لما هو محبوب منتظر لذا قال (لمن كان يرجوا الله ) أي المنقطع برجائه عما سوى الله فليس له غاية أو مطلب غير رضا مولاه , لأن ذل الرجاء ولذة الشوق إليه أشغلهم عما سواه – سبحانه -- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أحسن ما أعطي السائلين ) فقوله تعالى (واليوم الاخر ) هو رجاء لما في ذلك اليوم من فضل الله ونعمه فليس مرجواً على الحقيقة إلا الله سبحانه والخشية من ذلك اليوم والرجاء فيه يكون ممن يملك ذلك اليوم قال تعالى (لمن الملك (اليوم) لله الواحد القهار) وعلى الحقيقة ليس هناك إلا يوم .. فليس هناك أمس ولا غد .... فهو تعالى يسال ولا غيره يجيب , وإنما قال (واليوم الأخر) لمن سأله تعالى من فضله وكرمه وذلك يوم يتجلى فيه بالرحمة والكرم والود لعباده المؤمنين قال تعالى (إن الذين أمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا) أي في ذلك اليوم ما لأهل طاعته , والطمع بما عنده يكون رجاء لفضل الله , وليسوا سواء من كان رجاءه لفضل الله ومن كان رجاءه الله
وفي هذا المعنى قال تعالى (في مقعد صدق (عند ) مليك مقتدر ) وليس في الجنة , فقوله تعالى (اليوم الأخر ) مرتبة نازلة عن قوله (يرجوا الله )ثم بين لك بداية السلوك بقوله (وذكر الله كثيرا ) فلا سلوك بغير ذكر ولا سير بغير تأسي بالحبيب صلى الله عليه وسلم المفضي إلى حضرة القدس , قال تعالى (وإن إلى ربك المنتهى)
قال تعالى ( الشمس والقمر بحسبان * فبأي آلاء ربكما تكذبان ) شمس الجلال وقمر تجلي الجمال مجال المعرفة التي هي من ثمارصدق التوجه للخلاص والإخلاص المجمع في إتباع الحبيب لتلبية دعوة محبته -جل جلاله- , فهل علمت معنى الأسوة التي (في رسول الله) وحظك من ذلك الإرث على قدر عبوديتك لله وأتباعك للحبيب صلى الله عليه وسلم (وكل شيء أنزلناه بقدر )
اللهم صلِ وسلم وبارك على شمس الجلال وقمر الجمال ونقطة دائرة الكمال وعلى صحبه ولآل