Jalili
عضو جديد
- البلد/ المدينة :
- Kufur Yasif
- المُسَــاهَمَـاتْ :
- 32
- نقاط التميز :
- 128
- التَـــسْجِيلْ :
- 28/06/2011
ومضات حول التفكير العلمي
بروفيسور حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
لا علم بدون استغلال جيد لنعمة العقل في الرجوع للحس والتجربة والعلم منهج لاستكشاف الطبيعة. التفكير نشاط معقّد من حيث ماهيته ومنهجيته وهو متعلق بالذكاء والإبداع. والفكر إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة المجهول، والفكر هو العملية الذهنية التي ينظّم بها العقل مخزونه المعرفي وخبراته ومنهاجيته بغية البتّ في مشكلة أو موضوع ما نظريا كان أو تطبيقيا. للعامل النفسي تأثير واضح على عملية التفكير. وينقسم العقل إلى العقل الواعي والعقل الباطن )اللاواعي(. والتركيز في المقام الأول عادةٌ كما أن الشرود عادة والإمساك بالقلم لتدوين ما يمليه العقل طريقة مجربة للتركيز. وهناك أنماط عديدة للتفكير أهمها: التفكير البديهي أو المبدئي أو الطبيعي؛ التفيكر العاطفي أو الوجداني أو الهوائي ويتسم بالتسرع والسطحية والتطرف أي أبيض أو أسود؛ التفكير المنطقي المرتكز على التعليل؛ التفكير الرياضي؛ التفكير الناقد؛ التفكير الابتكاري الإبداعي؛ التفكير العلمي ويمر في خطوات أساسية: تحديد المشكلة والهدف من اتخاذ القرار؛ جمع البيانات والحقائق؛ وضع حلول بديلة للمشكلة؛ تقييم البدائل؛ اتخاذ القرار الأنسب والاستعداد ذهنيا لتعديلات على ضوء مستجدات معتمدة. والإنسان المفكر شكيّ في الجوهر وليس دوغمائيا وهو مستعد لتغيير رأيه عند توفر الدليل والبرهان. وبعبارة وجيزة، يرتكز التفكير العلمي النقدي على التجربة والعقلانية والشكية. والمنطق، اللوغس، مهارة ونظام يجب تعلمه في إطار نظامي وهذا التفكير كثيرا ما يتعارض ورغباتنا وفي العموم لدى العرب تفكير عاطفي فيه الأمل والرجاء والتمني. القراءة والكتابة والرياضيات هي طرق التفكير المنطقي التقليدية والعلم اليوم بمثابة الطريقة الرابعة. ومعظم الناس لا يؤمنون بأمور خاطئة غير معتمدة فحسب بل والأنكى من ذلك أنهم يبنون وينظّرون على تلك المعرفة.
هناك ثلاثة مصادر للفكر الأوروبي: الفكر اليوناني وهو في جوهره صراع بين اللوغس والميتوس؛ الفكر الروماني المتمثل أساسا بإنشاء مفهوم “الشيء العمومي”، منظومة قانونية؛ الديانة المسيحية لا سيما الكاثوليكية. بعد ذلك شهد العالم الغربي ثلاث ثورات هامة، الثورة الإنكليزية عام 1648؛ الثورة الفرنسية سنة 1789؛ الثورة الأمريكية في العصر الراهن.
ويقول السفسطائيون بعدم وجود “حقيقة” واحدة، كل واحد وحقيقته وجوهر القضية يكمن في القوة والقدرة لإقناع الآخر أن حقيقتك أفضل. وكذلك يقول الفيلسوف كانط. ومن جهة أخرى يقول الفكر الواقعي “الريالزم” بوجود حقيقة ومن الممكن التعرف عليها عن طريق البرهان تدريجيا مرحلة إثر أخرى. لا حقيقة مسبقة أو جاهزة إنها بمثابة علاقة مستمرة بين الفكر والواقع، بين النظرية والتطبيق وهذا ما قال به أرسطو أبو هذا التفكير العلمي. وفي الفكر الأفلاطوني مثلا نرى أن الحقيقة تتجلى بواسطة التفكير الصافي. الحقيقة موجودة في عالم الأفكار ونحن نحيا والأفكار والحقيقة تعيش فينا. الحقيقة منحوتة في الجنس البشري منذ الولادة وهناك العامل الغريزي الحدسي. جاء پوپر ونقض مقولة أفلاطون بأن الحقيقة واضحة قائلا بوجوب اتباع طريقة دحض كل الادعاءات وما لا يدحض يكون الحقيقة وهذا المنهاج متبع في عدة علوم كالطب مثلا.
لا ريب أن الثراء اللغوي سبب في عمق التفكير. هناك صلة عضوية وطيدة بين اللغة والتفكير فاللغة أداة المخ وقالب الفكر. اللغة والفكر بمثابة وجهين لعملة واحدة. التفكير سابق على اللغة، وقد بيّنت إحدى الدراسات أن 90% من رسائلنا العاطفية غير لفظية، حركة العينين واليدين وأعضاء بدنية أخرى ونبرة الصوت الخ. في الهند مثلا قبيلة باسم هوبي وفي لغتها صيغة الحاضر فقط وهذا أثر على نمط تفكير أفراد القبيلة. ولدى قبيلة التنسمانيين نرى أن العدد مكوّن من واحد واثنين وكثير. ومن وظائف اللغة نقل للواقع وتداول الأفكار والعواطف والاتصال مع الغير وهي تمثّل طريقة خاصة في تنظيم العالم، ووعاء التفكير السليم ذاكرة جيدة، وتنقسم الذاكرة إلى مخزن المعلومات الحسي وهناك ذاكرة قصيرة المدى لعدة ساعات فقط، وهناك الذاكرة طويلة الأمد التي تحفظ المعلومات إلا أن بعض أقسامها قد تتشظّى وتتشوه.
تمرّ آلية التذكر بالمراحل الآتية: استقبال المعلومة وتخزينها في القسم المناسب لها ثم ترميز تلك المعلومة لاستحضارها وقت اللزوم. مثال على ذلك السؤال: من القاتل قابيل أم هابيل؟ قد يتذكر المرء بسرعة أم لا وقد لا يتذكر أبدا ولكن لو خزّن الجواب الصائب بأن قابيل هو القاتل بالرمز الحرفي قا/قا فمن الصعب نسيان ذلك. يبلغ عدد خلايا الذاكرة قرابة عشرة مليارات خلية وكل خلية تستوعب مائة ألف معلومة. وأظهرت الدراسات المعاصرة أن الإنسان العادي يخزّن خمسة عشر تريليون معلومة.
نوعا الذاكرة: الذاكرة الدورية المعتمدة على التكرار والذاكرة المنطقية المبنية على الترتيب والربط المنطقيين. وهناك بضعة أسباب للنسيان: ضعف الصورة الذهنية؛ عدم تثبيت المعلومة إثر تخزينها إلا بعد فترة طويلة؛ تداخل المعلومات مع بعضها البعض؛ طرد المعلومات غير المرغوب فيها أي الكبح في علم النفس؛ تجاهل، وهذا في حالات كثيرة نعمة بالنسبة لعافية الإنسان النفسية والجسدية.
من أهم فيروسات التفكير اللاموضوعية وما يقوم على كمال زائف أو مواقف مسبقة والتفكير المستند إلى المشاعر وكأنها حقائق ثابتة والتفكير المعتمد على التمنيات أو التوهم الذهني والتفكير المبني على العادة وعقدة المؤامرة والفراسة المتوهمة والتعميم في التفكير )الأرنبة الذهنية(، والاجترار الذهني والتردد في التفكير. وهناك ما يسمى بالتفكير المعلّب، استنتاج قواعد عامة على هدي حوادث أو تجارب شخصية أو مبتورة أو ملاحظات سطحية. يعتبر الفكر السلفي السائد في المجتمعات العربية من أهم أسباب التخلف. هذه المجتمعات عرفت بعض التجارب التنويرية في تاريخها مثلا عند المعتزلة وابن رشد وابن خلدون وفي عصر النهضة مع الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وخير الدين التونسي والطهطاوي وفرح أنطون وسلامة موسى. والحق يقال لا وجود لديمقراطية لدى العرب حتى اليوم، كان في تاريخهم الطويل تسامح وعفو الخ. ولا بدّ من حركة نضالية تراكمية مستمرة للوصول لمجتمع ديمقراطي حقيقي. ومن البدهي أن الإبداع لا يعيش إلا في جوّ ديمقراطي حرّ، يحدث على غير مثال، خارج المعروف والمألوف وتربته الخصبة التمتع بالحرية كاملة. بعبارة قصيرة، لا بدّ من فصل الدين عن الدولة وهذا الفصل الحتمي كان قد تمّ بحلول النظام الرأسمالي. ثقافة المحرمات والتوبيخات والوهم والغيبيات الخ. تربة سامة وقاتلة لأي فكر حرّ مفيد للبشرية.
إن الأفكار الحرّة الجريئة في تاريخ البشرية ترمي دوما إلى مواجهة ما في المجتمع من ظروف ومعطيات دون أية مهادنة. جمرة هذه الأفكار المتقدة هو العقل، وأفكار من هذا القبيل تنمو وتترعرع في مناخ تحرري من الغيبيات والعبودية ونظرية تأثيم الذات. وقد حققت هذه الأفكار التنويرية الكثير من الإنجازات للجنس البشري ففلاسفة الإغريق كانوا قد بلوروا الفلسفة الإنسانية الداعية إلى قداسة قيم الإنسان الفردية.
الإبداع يعني في جوهره الخروج عن النصّ والروتيني فالنص يقيّد والنأويل يحرر. والصراع بين رجال العقل ورجال النقل قائم على الدوام ويلاحظ أن للعقل في التاريخ العربي دور محدود تجلّى بشكل واضح في عهد إخوان الصفا والمعتزلة ولكن منذ زمن المتوكل فصاعدا نشهد أن الغلبة صارت للعقل النقلي. يمكن القول إن العقل العربي قد تبلور في أواخر العصر الأموي وهناك من يقسم علوم العرب إلى ثلاثة أقسام: المعقول الديني واللامعقول العقلي والمعقول العقلي )الكندي والفارابي(. ومن المعروف أن الأعرابي القديم الذي كان بعيدا عن أطراف أهل الحضر كان مؤسسا للأداة الفكرية، اللغة، بالنسبة للعقل. وكان الشافعي مؤسس الفقه على قياس الغائب على الشاهد واعتبر النص القول الفصل في العقل العربي. الرأي السائد كان وما زال لحد بعيد أن كل شيء موجود في النص. ومن الملاحظ أن الأبحاث العربية القديمة كانت في معظمها الساحق منصبة لخدمة الدين ولم تتطرق بأي شكل كاف لسبر كنه الطبيعة لكشف قوانينها. لما يدخل العلم مع الدين في العقل العربي كما حدث في أوروبا. ومما قاله ابن سينا “حسبُنا ما كُتبت من شروح لمذاهب القدماء، فقد آن لنا لأن نضع فلسفة خاصة بنا”.
لا بد من تفكير واع ومنظم ومنطقي وواضح، إنه تفكير ماذا ولماذا وكيف. وعند التفكير في مشكلة ما لا بد من تحديد المشكلة بدقة وتعرية أسبابها فتحديد الهدف من حلها فتحديد البدائل أو الحلول الممكنة فاختيار أفضل البدائل والتنفيذ. ويقول علماء الإدارة إنه من أهم أسباب نجاح الإدارة اليابانية أو التفكير الياباني هو التركيز على تحديد المشكلة بدقة. ثم يجب تحديد أسباب المشكلة إلى رئيسية وفرعية، داخلية وخارجية، مباشرة وغير مباشرة، مادية ومعنوية، إجراء عملية تفكيكية.
ومن الأخطاء الشائعة عند التفكير في الأسباب إرجاعها لواحد لا غير في حين أن هناك أسبابا عديدة. مثل هؤلاء الناس في تفكيرهم هذا يشبهون ما يسمى بـدبوس الفيل”، إيقاف مشاكل بحجم الفيل على رأس دبوس ومثل هذه الظاهرة تعج في المحيط الثقافي الضحل.
العقل يقود الإنسان إلى التقدم والتقدم يعني أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون. والطريقة العلمية تضم نمطي التفكير الاستنباطي والاستقرائي. وللتفكير أغراض كثيرة مثل الفهم واتخاذ القرار وحل المشكلات والحكم على الأمور والاستمتاع والتخيل والانغماس في أحلام اليقظة. وهناك سبع خطوات في الأسلوب العلمي: الملاحظة؛ الرغبة في المعرفة؛ طرح التساؤل؛ تحديد أفضل طريقة للإجابة؛ اختبار الفروض؛ الاستنتاج؛ التعميم الحذر.
ومن مهارات تجنب الأخطاء في التفكير نذكر: تجنب التمركز حول الذات، هدف التفكير يجب أن يكون للاستكشاف وليس للدفاع عن وجهة النظر، عدم الخلط بين الفرضيات والحقائق، تجنب التعميم دون أساس، تجنب التهويل والتهوين، تجنب القولبة، التطرق لأسباب المشكلات وليس للأعراض، تجنب التحيز والشخصانية، السعي لإيجاد حلول غير تقليدية، عدم علم الإنسان بالشيء لا ينفي وجوده، تجنب الاعتماد على الأمثال والأقوال السائرة دون أخذ خصوصيات الموقف بعين الاعتبار. كل ذلك ينبغي أن يتم باستعمال مفردات بمدلولات محددة بوضوح.
ويرى أفلاطون في الفلسفة الطريق السوي في الحياة وعليها تقوم سعادة البشرية جمعاء وعبرها يتعرف الإنسان على الخير والحق والعدل وكلما ازدادت معرفة البشر بالفلسفة كلما ازداد نضجها العقلي ويتمخض عن ذلك اضمحلال الشرّ من القلوب. فضّل أفلاطون الفلسفة على الشعر أي العقل على القلب. وينبغي الكفّ عن اعتبار الاختلاف والتنوع والتعدد بين بني البشر وكأنه مصدر خصام وقلاقل وحروب وعداء بينهم ومن الواجب تبني رؤية ليبرالية تصبو لبناء فضاء سياسي مدني يعيش فيه كل الفرقاء. يواجه العقل العربي الراهن بعد أن تكلس خلال خمسة قرون الاحتلال العثماني معضلتين ضخمتين، سياسية وفكرية ولا بدّ من توفيق حكيم بين الأصالة والمعاصرة وينظر في هذا الصدد نظرية حسن حنفي. يقال من لا يستطيع أن يكون وحيدا ثلث نهاره على الأقل فلا أمل في أن يصبح مفكرا.
ومن الفلاسفة المعاصرين من يرى ثلاثة مظاهر للقلق إزاء الحداثة الغربية في عصر العولمة: الفردانية والعقل الأداتي والطغيان الناعم. وقد يكون إنسان الحداثة قد فقد أهم قيمة له: الكرامة وذلك بسبب البيروقراطية. الفلسفة دعامة رئيسة في الثقافة والثقافة العربية الراهنة لم تغبّ وتنهل كفاية من نهر الفلسفة المتجدد. صفوة الخلاصة، مادة التفكير العلمي ينبغي أن تكون من مقررات برنامج التعليم العربي منذ البداية كالحساب واللغة.
بروفيسور حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
لا علم بدون استغلال جيد لنعمة العقل في الرجوع للحس والتجربة والعلم منهج لاستكشاف الطبيعة. التفكير نشاط معقّد من حيث ماهيته ومنهجيته وهو متعلق بالذكاء والإبداع. والفكر إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة المجهول، والفكر هو العملية الذهنية التي ينظّم بها العقل مخزونه المعرفي وخبراته ومنهاجيته بغية البتّ في مشكلة أو موضوع ما نظريا كان أو تطبيقيا. للعامل النفسي تأثير واضح على عملية التفكير. وينقسم العقل إلى العقل الواعي والعقل الباطن )اللاواعي(. والتركيز في المقام الأول عادةٌ كما أن الشرود عادة والإمساك بالقلم لتدوين ما يمليه العقل طريقة مجربة للتركيز. وهناك أنماط عديدة للتفكير أهمها: التفكير البديهي أو المبدئي أو الطبيعي؛ التفيكر العاطفي أو الوجداني أو الهوائي ويتسم بالتسرع والسطحية والتطرف أي أبيض أو أسود؛ التفكير المنطقي المرتكز على التعليل؛ التفكير الرياضي؛ التفكير الناقد؛ التفكير الابتكاري الإبداعي؛ التفكير العلمي ويمر في خطوات أساسية: تحديد المشكلة والهدف من اتخاذ القرار؛ جمع البيانات والحقائق؛ وضع حلول بديلة للمشكلة؛ تقييم البدائل؛ اتخاذ القرار الأنسب والاستعداد ذهنيا لتعديلات على ضوء مستجدات معتمدة. والإنسان المفكر شكيّ في الجوهر وليس دوغمائيا وهو مستعد لتغيير رأيه عند توفر الدليل والبرهان. وبعبارة وجيزة، يرتكز التفكير العلمي النقدي على التجربة والعقلانية والشكية. والمنطق، اللوغس، مهارة ونظام يجب تعلمه في إطار نظامي وهذا التفكير كثيرا ما يتعارض ورغباتنا وفي العموم لدى العرب تفكير عاطفي فيه الأمل والرجاء والتمني. القراءة والكتابة والرياضيات هي طرق التفكير المنطقي التقليدية والعلم اليوم بمثابة الطريقة الرابعة. ومعظم الناس لا يؤمنون بأمور خاطئة غير معتمدة فحسب بل والأنكى من ذلك أنهم يبنون وينظّرون على تلك المعرفة.
هناك ثلاثة مصادر للفكر الأوروبي: الفكر اليوناني وهو في جوهره صراع بين اللوغس والميتوس؛ الفكر الروماني المتمثل أساسا بإنشاء مفهوم “الشيء العمومي”، منظومة قانونية؛ الديانة المسيحية لا سيما الكاثوليكية. بعد ذلك شهد العالم الغربي ثلاث ثورات هامة، الثورة الإنكليزية عام 1648؛ الثورة الفرنسية سنة 1789؛ الثورة الأمريكية في العصر الراهن.
ويقول السفسطائيون بعدم وجود “حقيقة” واحدة، كل واحد وحقيقته وجوهر القضية يكمن في القوة والقدرة لإقناع الآخر أن حقيقتك أفضل. وكذلك يقول الفيلسوف كانط. ومن جهة أخرى يقول الفكر الواقعي “الريالزم” بوجود حقيقة ومن الممكن التعرف عليها عن طريق البرهان تدريجيا مرحلة إثر أخرى. لا حقيقة مسبقة أو جاهزة إنها بمثابة علاقة مستمرة بين الفكر والواقع، بين النظرية والتطبيق وهذا ما قال به أرسطو أبو هذا التفكير العلمي. وفي الفكر الأفلاطوني مثلا نرى أن الحقيقة تتجلى بواسطة التفكير الصافي. الحقيقة موجودة في عالم الأفكار ونحن نحيا والأفكار والحقيقة تعيش فينا. الحقيقة منحوتة في الجنس البشري منذ الولادة وهناك العامل الغريزي الحدسي. جاء پوپر ونقض مقولة أفلاطون بأن الحقيقة واضحة قائلا بوجوب اتباع طريقة دحض كل الادعاءات وما لا يدحض يكون الحقيقة وهذا المنهاج متبع في عدة علوم كالطب مثلا.
لا ريب أن الثراء اللغوي سبب في عمق التفكير. هناك صلة عضوية وطيدة بين اللغة والتفكير فاللغة أداة المخ وقالب الفكر. اللغة والفكر بمثابة وجهين لعملة واحدة. التفكير سابق على اللغة، وقد بيّنت إحدى الدراسات أن 90% من رسائلنا العاطفية غير لفظية، حركة العينين واليدين وأعضاء بدنية أخرى ونبرة الصوت الخ. في الهند مثلا قبيلة باسم هوبي وفي لغتها صيغة الحاضر فقط وهذا أثر على نمط تفكير أفراد القبيلة. ولدى قبيلة التنسمانيين نرى أن العدد مكوّن من واحد واثنين وكثير. ومن وظائف اللغة نقل للواقع وتداول الأفكار والعواطف والاتصال مع الغير وهي تمثّل طريقة خاصة في تنظيم العالم، ووعاء التفكير السليم ذاكرة جيدة، وتنقسم الذاكرة إلى مخزن المعلومات الحسي وهناك ذاكرة قصيرة المدى لعدة ساعات فقط، وهناك الذاكرة طويلة الأمد التي تحفظ المعلومات إلا أن بعض أقسامها قد تتشظّى وتتشوه.
تمرّ آلية التذكر بالمراحل الآتية: استقبال المعلومة وتخزينها في القسم المناسب لها ثم ترميز تلك المعلومة لاستحضارها وقت اللزوم. مثال على ذلك السؤال: من القاتل قابيل أم هابيل؟ قد يتذكر المرء بسرعة أم لا وقد لا يتذكر أبدا ولكن لو خزّن الجواب الصائب بأن قابيل هو القاتل بالرمز الحرفي قا/قا فمن الصعب نسيان ذلك. يبلغ عدد خلايا الذاكرة قرابة عشرة مليارات خلية وكل خلية تستوعب مائة ألف معلومة. وأظهرت الدراسات المعاصرة أن الإنسان العادي يخزّن خمسة عشر تريليون معلومة.
نوعا الذاكرة: الذاكرة الدورية المعتمدة على التكرار والذاكرة المنطقية المبنية على الترتيب والربط المنطقيين. وهناك بضعة أسباب للنسيان: ضعف الصورة الذهنية؛ عدم تثبيت المعلومة إثر تخزينها إلا بعد فترة طويلة؛ تداخل المعلومات مع بعضها البعض؛ طرد المعلومات غير المرغوب فيها أي الكبح في علم النفس؛ تجاهل، وهذا في حالات كثيرة نعمة بالنسبة لعافية الإنسان النفسية والجسدية.
من أهم فيروسات التفكير اللاموضوعية وما يقوم على كمال زائف أو مواقف مسبقة والتفكير المستند إلى المشاعر وكأنها حقائق ثابتة والتفكير المعتمد على التمنيات أو التوهم الذهني والتفكير المبني على العادة وعقدة المؤامرة والفراسة المتوهمة والتعميم في التفكير )الأرنبة الذهنية(، والاجترار الذهني والتردد في التفكير. وهناك ما يسمى بالتفكير المعلّب، استنتاج قواعد عامة على هدي حوادث أو تجارب شخصية أو مبتورة أو ملاحظات سطحية. يعتبر الفكر السلفي السائد في المجتمعات العربية من أهم أسباب التخلف. هذه المجتمعات عرفت بعض التجارب التنويرية في تاريخها مثلا عند المعتزلة وابن رشد وابن خلدون وفي عصر النهضة مع الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وخير الدين التونسي والطهطاوي وفرح أنطون وسلامة موسى. والحق يقال لا وجود لديمقراطية لدى العرب حتى اليوم، كان في تاريخهم الطويل تسامح وعفو الخ. ولا بدّ من حركة نضالية تراكمية مستمرة للوصول لمجتمع ديمقراطي حقيقي. ومن البدهي أن الإبداع لا يعيش إلا في جوّ ديمقراطي حرّ، يحدث على غير مثال، خارج المعروف والمألوف وتربته الخصبة التمتع بالحرية كاملة. بعبارة قصيرة، لا بدّ من فصل الدين عن الدولة وهذا الفصل الحتمي كان قد تمّ بحلول النظام الرأسمالي. ثقافة المحرمات والتوبيخات والوهم والغيبيات الخ. تربة سامة وقاتلة لأي فكر حرّ مفيد للبشرية.
إن الأفكار الحرّة الجريئة في تاريخ البشرية ترمي دوما إلى مواجهة ما في المجتمع من ظروف ومعطيات دون أية مهادنة. جمرة هذه الأفكار المتقدة هو العقل، وأفكار من هذا القبيل تنمو وتترعرع في مناخ تحرري من الغيبيات والعبودية ونظرية تأثيم الذات. وقد حققت هذه الأفكار التنويرية الكثير من الإنجازات للجنس البشري ففلاسفة الإغريق كانوا قد بلوروا الفلسفة الإنسانية الداعية إلى قداسة قيم الإنسان الفردية.
الإبداع يعني في جوهره الخروج عن النصّ والروتيني فالنص يقيّد والنأويل يحرر. والصراع بين رجال العقل ورجال النقل قائم على الدوام ويلاحظ أن للعقل في التاريخ العربي دور محدود تجلّى بشكل واضح في عهد إخوان الصفا والمعتزلة ولكن منذ زمن المتوكل فصاعدا نشهد أن الغلبة صارت للعقل النقلي. يمكن القول إن العقل العربي قد تبلور في أواخر العصر الأموي وهناك من يقسم علوم العرب إلى ثلاثة أقسام: المعقول الديني واللامعقول العقلي والمعقول العقلي )الكندي والفارابي(. ومن المعروف أن الأعرابي القديم الذي كان بعيدا عن أطراف أهل الحضر كان مؤسسا للأداة الفكرية، اللغة، بالنسبة للعقل. وكان الشافعي مؤسس الفقه على قياس الغائب على الشاهد واعتبر النص القول الفصل في العقل العربي. الرأي السائد كان وما زال لحد بعيد أن كل شيء موجود في النص. ومن الملاحظ أن الأبحاث العربية القديمة كانت في معظمها الساحق منصبة لخدمة الدين ولم تتطرق بأي شكل كاف لسبر كنه الطبيعة لكشف قوانينها. لما يدخل العلم مع الدين في العقل العربي كما حدث في أوروبا. ومما قاله ابن سينا “حسبُنا ما كُتبت من شروح لمذاهب القدماء، فقد آن لنا لأن نضع فلسفة خاصة بنا”.
لا بد من تفكير واع ومنظم ومنطقي وواضح، إنه تفكير ماذا ولماذا وكيف. وعند التفكير في مشكلة ما لا بد من تحديد المشكلة بدقة وتعرية أسبابها فتحديد الهدف من حلها فتحديد البدائل أو الحلول الممكنة فاختيار أفضل البدائل والتنفيذ. ويقول علماء الإدارة إنه من أهم أسباب نجاح الإدارة اليابانية أو التفكير الياباني هو التركيز على تحديد المشكلة بدقة. ثم يجب تحديد أسباب المشكلة إلى رئيسية وفرعية، داخلية وخارجية، مباشرة وغير مباشرة، مادية ومعنوية، إجراء عملية تفكيكية.
ومن الأخطاء الشائعة عند التفكير في الأسباب إرجاعها لواحد لا غير في حين أن هناك أسبابا عديدة. مثل هؤلاء الناس في تفكيرهم هذا يشبهون ما يسمى بـدبوس الفيل”، إيقاف مشاكل بحجم الفيل على رأس دبوس ومثل هذه الظاهرة تعج في المحيط الثقافي الضحل.
العقل يقود الإنسان إلى التقدم والتقدم يعني أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون. والطريقة العلمية تضم نمطي التفكير الاستنباطي والاستقرائي. وللتفكير أغراض كثيرة مثل الفهم واتخاذ القرار وحل المشكلات والحكم على الأمور والاستمتاع والتخيل والانغماس في أحلام اليقظة. وهناك سبع خطوات في الأسلوب العلمي: الملاحظة؛ الرغبة في المعرفة؛ طرح التساؤل؛ تحديد أفضل طريقة للإجابة؛ اختبار الفروض؛ الاستنتاج؛ التعميم الحذر.
ومن مهارات تجنب الأخطاء في التفكير نذكر: تجنب التمركز حول الذات، هدف التفكير يجب أن يكون للاستكشاف وليس للدفاع عن وجهة النظر، عدم الخلط بين الفرضيات والحقائق، تجنب التعميم دون أساس، تجنب التهويل والتهوين، تجنب القولبة، التطرق لأسباب المشكلات وليس للأعراض، تجنب التحيز والشخصانية، السعي لإيجاد حلول غير تقليدية، عدم علم الإنسان بالشيء لا ينفي وجوده، تجنب الاعتماد على الأمثال والأقوال السائرة دون أخذ خصوصيات الموقف بعين الاعتبار. كل ذلك ينبغي أن يتم باستعمال مفردات بمدلولات محددة بوضوح.
ويرى أفلاطون في الفلسفة الطريق السوي في الحياة وعليها تقوم سعادة البشرية جمعاء وعبرها يتعرف الإنسان على الخير والحق والعدل وكلما ازدادت معرفة البشر بالفلسفة كلما ازداد نضجها العقلي ويتمخض عن ذلك اضمحلال الشرّ من القلوب. فضّل أفلاطون الفلسفة على الشعر أي العقل على القلب. وينبغي الكفّ عن اعتبار الاختلاف والتنوع والتعدد بين بني البشر وكأنه مصدر خصام وقلاقل وحروب وعداء بينهم ومن الواجب تبني رؤية ليبرالية تصبو لبناء فضاء سياسي مدني يعيش فيه كل الفرقاء. يواجه العقل العربي الراهن بعد أن تكلس خلال خمسة قرون الاحتلال العثماني معضلتين ضخمتين، سياسية وفكرية ولا بدّ من توفيق حكيم بين الأصالة والمعاصرة وينظر في هذا الصدد نظرية حسن حنفي. يقال من لا يستطيع أن يكون وحيدا ثلث نهاره على الأقل فلا أمل في أن يصبح مفكرا.
ومن الفلاسفة المعاصرين من يرى ثلاثة مظاهر للقلق إزاء الحداثة الغربية في عصر العولمة: الفردانية والعقل الأداتي والطغيان الناعم. وقد يكون إنسان الحداثة قد فقد أهم قيمة له: الكرامة وذلك بسبب البيروقراطية. الفلسفة دعامة رئيسة في الثقافة والثقافة العربية الراهنة لم تغبّ وتنهل كفاية من نهر الفلسفة المتجدد. صفوة الخلاصة، مادة التفكير العلمي ينبغي أن تكون من مقررات برنامج التعليم العربي منذ البداية كالحساب واللغة.