في أواسط الخمسينيات وفي تموز (يوليه) من عام 1956 على وجه الدقة أصدر
«نزار قباني» مجموعته الشعرية الخامسة المسمّاة «قصائد»، فلوحظ في تلك
المجموعة قصيدة تحمل هذا العنوان «مع جريدة» شبيهة بقصيدة للشاعر الفرنسي
المعروف «جاك بريفير» في مجموعته «كلمات parols»، وكنت أقتني نسخة منها
أستعيد قراءتها كلما خطر لي أن أسترجع المتعة التي يجمعها الشعر الصافي
الجميل ببساطته المدهشة والشبيهة بلغة الحديث الجاري في الحياة اليومية،
والتي لا تتجلى بكامل حلاوتها إلا بلغتها الأصلية.
وتأكدت من التشابه بين القصيدتين حين راجعت كلمات «بريفير» .
أذكر أنني صارحت «نزاراً» بعد ذلك بما اكتشفت، وكانت تربطني به مودة وصداقة، فما كان منه إلا أن ابتسم قائلاً بلهجته الشامية الخاصة:
بدّك الحقيقة.. ما بعرف كيف بعد قراءتي قصيدة «بريفير» كيف نفر الشعر عالفور إلى قلبي وتمّي وكتبت اللي كتبتو متلو!.»
فقلت له كما أذكر:
ـ لا بأس.. ولكن كان عليك أن تشير إلى الأصل ولن يضيرك ذلك عندئذ، وإلا اتهموك بالسرقة!.
فأجاب باللهجة إيَّاها:
ـ يا سيدي.. سامحونا.. مرة في العمر وما راح نعيدها..!.
وفعلاً لم يُعْدها «نزار»، غير أن الذي حدث في الشارع الثقافي آنذاك أن
ضجة كبرى نشبت حول موضوع «السرقة الأدبية»، واغتنى النقاش فيما بعد إلى
أعمق من اتهام «نزار» وقد تحوّل إلى سجال حول موضوعات «التأثير»
و«التأثّر» و«المثاقفة» و«التمثل» أو «التناصّْ» ـ كما يصطلحون عليه الآن.
وحين أعود اليوم إلى هذا الموضوع، أصنع ذلك كي أثير ضجةً، مضى زمانها
وإنما بسبب المصادفة التي أوقعت القصيدتين من جديد بين يديّ في وقت واحد،
فخطر لي على الفور أن أعيد النظر فيهما فإذا بي أنتبه إلى ملاحظات طريفة
هامة لم أنتبه لها من قبل، وها أنذا أصنع الآن إغناءً لبحثٍ ما يزال
مطروحاً.
التأثر بالشعر الأجنبي عموماً
هذا التأثر ظاهرة قديمة في تاريخنا الأدبي ولكنه تأثر ظل محدوداً جداً
بسبب اعتزاز خاص بالشعر يتحيّز به العرب وكان يقال فيهم «الشعر ديوان
العرب»، اعتزازٌ دفعهم مثلاً إلى إهمال ترجمة الملاحم اليونانية مع أنهم
ترجموا علومهم وفلسفتهم. العصور الحديثة إذن هي التي جرّت العرب إلى
الاحتكاك بالغرب بما يشبه الصدمة كي يلاحظوا تخلّفهم عنه بعيون جديدة،
ويدركوا أن الأدب الغربي بمجمل فنونه وأجناسه جدير بالاهتمام العميق
وبالتالي بالترجمة إلى العربية.
يمكننا هنا ـ باختصار طبعاً ـ أن نلاحظ نوعين من «التأثّر» ظهرا معاً منذ
بدايات هذه الصدمة، ونعني أولاً التأثر المباشر الناجم عن مطالعة النصوص
الأجنبية بلغاتها الأصلية. وثانياً التأثر غير المباشر الناشئ عن الاكتفاء
بمطالعة الترجمات بسبب عدم معرفة اللغة الأجنبية أي الأصلية، وغني عن
الذكر القول بأن التأثر المباشر أعمق وأجدى، ذلك لأنه متحرّر من أخطاء
الترجمة أو انحيازات المترجمين واضعاً إيانا أمام طزاجة وبراءة اللغة
الأولى دونما وسيط، اللغة التي اختارها المبدع ذاته وخاصةً في الشعر
المتميّز ـ عن السرد القصصي مثلاً ـ كفنٍّ أدبي بطابعه الذاتي الصارخ
والعصيِّ على الترجمة.
قصيدة «نزار» تطرح هذه المسألة بقوّة إذ تدفعنا دفعاً إلى التفكير بجاذبية
النص الأصلي التي أحسّ بها الشاعر المنتمي إلى لغةٍ أخرى حسب ذوقه الخاص،
هذا الإحساس الكامن وراء اختيار هذا الشاعر لقصيدة أجنبية معيّنة، كما
تدفعنا إلى مناقشة النصّ العربي بما هو محاولة إشكالية تتراوح بين الترجمة
والتأثّر والسرقة. فلماذا مثلاً اختار «نزار» هذا النصّ بالذات دون غيره
ليبني عليه نصّاً آخر مشابهاً أو مماثلاً؟
للجواب على هذا السؤال لابدَّ من أخذ شخصية «نزار» نفسه بالحسبان من حيث
نوع الاهتمامات التي تشكّل نوعيّة رؤيته للحياة، ومن حيث أساليب التعبير
التي يتميّز بها من جهة أخرى. من هذا المنطلق يبدو النص الفرنسي متناغماً
كل التناغم مع طبيعة الرؤية الشعرية لدى «نزار» كشاعر كرّس معظم اهتماماته
للتواصل مع القضايا الناجمة عن العلاقة بين المرأة والرجل وخاصة من خلال
تقمّصه قصيدة «بريفير» ـ لأول وآخر مرّة ـ شخص العاشقة المهملة وهي تصف
مشهد الرجل الذي تحبّه يتجاهلها وهو يشرب فنجانه الصباحي قريباً منها من
دون أن يوجّه لها أيّة كلمة، وكيف بكت بعد رحيله الصامت. أضف إلى هذا تلك
البساطة المدهشة في تراكيب اللغة الفرنسية التي يستخدمها الشاعر الفرنسي،
مما يذكِّرنا بنزوعات «نزار» الأسلوبية في اختيار تراكيب لغوية بعيدة عن
التفاصح والجزالة في معظم ما كتبه من شعر كصياغة أقرب ما تكون إلى لغة
الحياة الجارية.
مقارنة بين النصّين
التشابه بين القصيدتين واضح جداً، فكلّ منها يقدّم مشهداً سريعاً لامرأةٍ
تصف مجلسها في أحد المقاهي من خلال التركيز على وصف حركات الرجل الذي كانت
تترقب كلمةً واحدةً منه يوجّهها إليها، مما يدل بالتأكيد على وجود علاقة
عاطفية بينهما ولكن الرجل يتجاهلها لسبب ما لا نعرفه وقد يعود إلى خصومة
نشبت بينهما، إذ يبدو غير مكترث بحضورها وكأنه يتعمَّد إغاظتها وكيف يشرب
فنجانه غير عابئ بها ثم ينهض ويلبس معطفه المطري ويغادر من دون أيّة كلمة،
فلا تجد المرأة المهملة ما تصنعه بعد ذلك سوى البكاء ـ كما يقول «بريفير»
ـ أو تتجرَّع مرارة الشعور بالوحشة والوحدة ـ كما يقول «نزار».
ثمة بعض الفوارق في الوصف بين النصّين مثل ذكر «الجريدة» و«علبة الثقاب»
لدى نزار وعدم ذكرهما لدى «بريفير»، وختام النص بحركة المرأة وهي تضع
رأسها بين يديها باكية ـ في النص الفرنسي ـ في حين يختمه «نزار» بغياب
الرجل في الزحام وتركه «الجريدة» وراءه وحيدة كالمرأة الوحيدة، بينما يصف
«بريفير» ذهاب الرجل تحت المطر.. وهي فوارق لا تلغي التشابه بين القصيدتين
ولعلّ سبب وجود هذه الفوارق الشكلية يعود إلى تقيّد «نزار» بالوزن وبعض
القوافي في حين كان الشاعر الفرنسي متحرراً تماماً من هذه القيود. وربما
لهذا السبب نفسه لم يتابع «نزار» مشهد التدخين مكتفياً بذكر علبة الثقاب ـ
التي لم يذكرها الشاعر الفرنسي ـ من دون أن يصف عملية إشعال السيجارة
وحلقات الدخان التي ذكرها «بريفير».
الفارق الأساسي بين النصّين هو في طريقة العرض، إذ تبدو لدى الشاعر
الفرنسي مماثلة للعرض السينمائي أي الاكتفاء بتقديم حركات الشخص من دون
ذكر نوع المشاعر لديه خلال ذلك وربما يعود هذا إلى أن «جاك بريفير» كان
كاتب سيناريو متميزاً لعدد من الأفلام السينمائية الناجحة بقدر ما كان
شاعراً متمّيزاً، في حين أن «نزار قباني» يذكر هذه المشاعر لدى المرأة فقط
حين يستخدم مثل هذه التعابير: «يلاحظ اضطرابي» و«دونما اهتمام» «ذوّبني»
«يعرف الشوق الذي اعتراني»..
وثمة فارق آخر في أن قصيدة «نزار» أقصر وأكثر كثافة وهذا ما أدّى إلى نوع
من الالتباس في فهم المعنى الحقيقي لحركة الرجل حين يقول «نزار» «ودون أن
يراني» ـ وهذا خطأ طبعاً في الصياغة العربية اللغوية وصوابه إضافة حرف
الجرّ «من» قبل «دون» فهذه الجملة لا تساعد على فهم معنى الحركة، والأصح
أن يقول «من دون أن ينظر إليّ» كما يقول الشاعر الفرنسي لأن فعل «يرى» قد
يدل على أن الرجل لم يلاحظ وجود المرأة وبالتالي فإن تجاهله إياها ليس
متعمداً وإنما هو بسبب عدم رؤيته المرأة أصلاً.
والفارق الأخير الذي نذكره يتعلّق بالاختلاف بين النصّين في نوع الصياغة
اللغوية، ففي النصّ الفرنسي ليس سوى البساطة التي تقارب السذاجة في حين
تبدو الصياغة اللغوية في النصّ العربي على رشاقتها لا تخلو من مؤثرات يعود
إرثها التاريخي إلى أصول البيان العربي من إيقاع موزون على تفعيلة
«مستفعلن» أو مجزوء البحر السريع، مع تقفية خفيفة، مما يبعدها نسبيّاً عن
الصياغة الجارية للحديث اليومي ـ بعكس النص الفرنسي ـ وهذا ما يقودنا إلى
التفكير بإشكالية تبسيط اللغة في الصياغة العربية، وأن ما يقدر عليه
الفرنسي في تبسيط صياغته اللغوية الأدبية التي تكاد تطابق لغة الحديث
الجاري على الألسن، لا يقدر عليه العربي في لغته الأدبية المختلفة تماماً
عن أساليب اللغة المحكيّة. فما عسى الشاعر العربي أن يصنع إذا ما أراد
فعلاً الاقتراب كثيراً من لغة الناس في حياتهم اليومية؟.. وهل تسمح لغتنا
الفصيحة بهذه المقاربة شعرياً على الأخصّ؟.
في هذه المسألة الإشكالية أعتقد أن «نزار قباني» قدَّم حلاً معقولاً من
خلال قصيدته «مع جريدة» كما في الكثير من قصائده الأخرى مثل «حُبلى»
و«لوليتا» و«البيان الأخير من الملك شهريار» وغيرها كثير.
ليست إذن قصيدة «نزار» الآنفة الذكر في بحثنا هذا سرقةً أدبية عادية
وإنّما هي تعبير معيّن وخاصّ عن مضاعفات صدمة الحداثة والرغبة المحرقة في
التجديد. وتعبير يشبه السرقة ولكنه يتجاوزها في الوقت ذاته من خلال ما
يطرحه من إشكالات وأفكار وملاحظات هامة تضعنا في مواجهة ميدانية مع
الحداثة والتحديث قد لا تروي غليلنا ولا تقنعنا أحياناً، ولكنها بالتأكيد
ترفع من مستوى تعطّشنا لمنابع أعمق وأصفى من المعرفة.
الكاتب: شوقي بغدادي
المصدر: أرجوكم http://www.wadilarab.com/t20377-topic#ixzz1Y1uFFXBg
منتدى وادي العرب