أحمد بلقمري
عضو مساهم
- البلد/ المدينة :
- برج بوعريريج/ الجزائر
- العَمَــــــــــلْ :
- مستشار التوجيه و التقييم و الإدماج المهنيين
- المُسَــاهَمَـاتْ :
- 173
- نقاط التميز :
- 292
- التَـــسْجِيلْ :
- 07/09/2011
المُهاجر.. ( قصّة قصيرة )
هذه باريس لوتيسيا قديما بلاد الجنّ و الملائكة، وهذا سي رابح الفلاّح ابن القرية الذّي جاء شابّا إلى هذه المدينة لم يبق منه سوى ذلك الجسد الواهن الذّي تُدثّره قشّابة وتُسنده عصا، لا يزال سي رابح ممشوقا بهامته، مُعتمّا بعمامته ، يمشي في شوارع باريس يتحدّث لغة هجينة، ويسكن في الضّواحي في غرفة معدّة للشّيوخ العجزة، يقاسمه الغرفة الحاج مولود ابن قريته ورفيق دربه، لا يزالان يذكران يومهما الأوّل في باريس، كانا يافعين حينها، يُحدّث الحاج صديقه فيقول له: أما زلت تذكر يا سي رابح يوم قدمنا إلى باريس و لم نكن نتحدّث الفرنسية، لن أنس ذلك اليوم ما حييت، يوم تهنا نحاول شراء الخبز لكننا لم نستطع، كنّا نشمّ رائحة الخبز لكننا لم نهتد لمحلّ بيعه، بقينا نبحث في كل الاتّجاهات نتبع رائحة الخبز في الشّوارع رغم أنّ الكتابة كانت واضحة " بولونجري[i] "، المحلّ كان قريبا منا إلا أن جهلنا للّغة رمى بنا بعيدا، لو كنّا نقرأ حينها يا سي رابح لما حدث ذلك معنا، اليوم و أنا أتجول في شوراع باريس كلّما مررت بمحل لبيع الخبز أتذكّر تلك الحادثة.. قهقه الحاج مولود وهو يحادث صاحبه الذي أومأ له بالرّضا عن حديثه، لأنّه كان منشغلا بحلق ذقنه الذي تغضّن.. أنهى سي رابح حلق ذقنه، حضّر صينيّة القهوة، سكب فنجانا له و آخر لرفيق عمره، جلس أمام صديقه وقال له: يا الحاج لقد حنّ قلبي للوطن، لقد طار قلبي كعصفور صغير متجّها نحو بلاد أولاد حنّاش، مهما طار طير مهاجر وارتفع إلاّ كما طار رجع، لقد تعبت هنا في هذه المدينة التي شربت من دمِنا و أكلت من لحمِنا، و أنا في هذه السّن لم أعد أحتمل الغُربة، أشعر بأنّني سأموت، و لا أريد أن أموت هنا بين الكفّار، أريد أن يصلّى عليّ في الجامع و أدفن على الطّريقة الإسلامية، يغسّلونني، يكفنونني ويُصلّى علّي، أريد أن أدفن بالحلال يا الحاج.. راح سي رابح ينثر وجعه على مرأى من صاحبه الذي لم يكن بأحسن حال منه.. أصابت كلمات سي رابح موطئا من قلب الحاج فبكى سنين عمره التي راحت هباء منثورا، لا ولدا يحمل اسمه، لا امرأة تقف إلى جانبه في سنوات العمر الخدّاعات، لا امرأة تنتظره في المساء لتنسيه تعب الصّباح، و لا حبيبا أو قريبا يسند الظّهر و يجلب الفخر.. قال سي رابح: ما نفع المال إذا لم تكن لك أسرة تضمّك، ما نفع المال إذا لم يكن لك ولد تُحبّه ويُحبّك، ما نفع المال إذا تغرّبت عن الوطن و ضيّعت سنين العمر أجمعها متجوّلا بين المدن باحثا عن الدّفء، باحثا عن كرامتك التي لم تجدها يوما، ماذا قدّمت لنا الهجرة غير القهر و البؤس والعذاب و الألم.. لقد ندمت يا الحاج وقرّرت التوبة و العودة إلى الله، لقد كرهت هذه الحياة الخدّاعة، لقد غرّنا بُهرج الحياة و زخرفها، ونسينا أنّ لنا ربّا يحبّنا و يعطف علينا، نسينا أنّه وجب علينا الصّوم في شهر رمضان، نسينا أنّنا مسلمون، نسينا أننا مهاجرون غرباء و لسنا أبناء هذا البلد، نسينا أننا جزائريّون يا الحاج، جزائريّون.. قال الحاج مولود علينا أن نبدأ بتصفية كل أمورنا هنا و العودة للوطن يا سي رابح، غدا إن شاء الله سنباشر كل الإجراءات لنتمكن من العودة إلى البلاد في أقرب وقت ممكن، اتّصل بسي قدور و أخبره بقرارنا حتّى يساعدنا .. بدأ الرّجلان في توضيب أغراضهما و الاستعداد للرّحيل بعيدا عن أرض المهجر، طلبا جوازات سفر جديدة، سحبا مبالغ من المال، اقتنيا تذاكر السّفر، أعدّا الحقائب وقرّرا أن يودّعا باريس بلا رجعة.. كانت ليلة من ليالي باريس الباردة، لم ينم الرّجلان وهما يحاولان أن يرسما صورا للجزائر التي لم يزورانها منذ خمسين سنة خلت، بقيا يحلمان بالجزائر، تواعدا على الاستيقاظ باكرا حتّى يتمكنّا من الوصول إلى المطار قبل الموعد المقرّر للرّحلة، طلب سي رابح من الحاج مولود أن يوقظه لأنّه أحسّ بأنّ قلبه انقبض فرحا بعودته المرتقبة إلى أرض الوطن، قال سي رابح: أشعر بأنّني لن أرى الجزائر مثلما حلمت بها، أحسّ بأنّني سأغادر الحياة قبل أن تطأ قدماي أرض أجدادي.. قال الحاج: ما بك يا سي رابح، أرجوك لا تقل هذا الكلام سنعود مع بعض إلى الجزائر، وسنكمل حياتنا هناك، سنتزوّج و نعوّض كلّ الذي قد فات.. قال سي رابح: إن شاء الله، قام فتوضأ للصّلاة، صلّى ركعتين، حمد الله، قرأ بعض الأدعية، ثمّ رمى بجسمه النّحيل على سريره، و قال لصاحبه: تصبح على خير يا الحاج أستودعك الله.. دقّت السّاعة الخامسة صباحا، استيقظ الحاج، حاول إيقاظ سي رابح، نادى عليه: يا سي رابح، سي رابح، سي رابح، استيقظ يا كسول لقد حان وقت المغادرة.. يبدو أنّ سي رابح لم يرد أن يجيب صديقه هذه المرّة بعدما أجابه طول عمره.. اقترب الحاج من سي رابح، سحب الغطاء من على جسمه، ربّت على كتفه قائلا: يا سي رابح، سي رابح.. لم يجب.. في لحظة واحدة انقلب كلّ شيء، تغيّرت كلّ المعطيات، رحلت كلّ الأمنيات وطارت كلّ الرّحلات إلاّ رحلة سي رابح نحو الوطن.. لقد توفي سي رابح.. ياه، لم يكن الحاج مولود ينتظر ذلك، لم يكن ينتظر أن يزور الجزائر مشيّعا لرفيق الدّرب، لم يكن الحاج يفكّر لحظة أن يفارقه صاحبه بتلك الطّريقة.. بكّاه بحرقة المُحبّين، كفّنه، غسّله وصلّى عليه صلاة المسلمين، ودّعه إلى الأبد لكنّه حمل ذكراه الطّيبة في قلبه و وعده أن يلتقي به في جنان الخالدين.. – تمّت -
هذه باريس لوتيسيا قديما بلاد الجنّ و الملائكة، وهذا سي رابح الفلاّح ابن القرية الذّي جاء شابّا إلى هذه المدينة لم يبق منه سوى ذلك الجسد الواهن الذّي تُدثّره قشّابة وتُسنده عصا، لا يزال سي رابح ممشوقا بهامته، مُعتمّا بعمامته ، يمشي في شوارع باريس يتحدّث لغة هجينة، ويسكن في الضّواحي في غرفة معدّة للشّيوخ العجزة، يقاسمه الغرفة الحاج مولود ابن قريته ورفيق دربه، لا يزالان يذكران يومهما الأوّل في باريس، كانا يافعين حينها، يُحدّث الحاج صديقه فيقول له: أما زلت تذكر يا سي رابح يوم قدمنا إلى باريس و لم نكن نتحدّث الفرنسية، لن أنس ذلك اليوم ما حييت، يوم تهنا نحاول شراء الخبز لكننا لم نستطع، كنّا نشمّ رائحة الخبز لكننا لم نهتد لمحلّ بيعه، بقينا نبحث في كل الاتّجاهات نتبع رائحة الخبز في الشّوارع رغم أنّ الكتابة كانت واضحة " بولونجري[i] "، المحلّ كان قريبا منا إلا أن جهلنا للّغة رمى بنا بعيدا، لو كنّا نقرأ حينها يا سي رابح لما حدث ذلك معنا، اليوم و أنا أتجول في شوراع باريس كلّما مررت بمحل لبيع الخبز أتذكّر تلك الحادثة.. قهقه الحاج مولود وهو يحادث صاحبه الذي أومأ له بالرّضا عن حديثه، لأنّه كان منشغلا بحلق ذقنه الذي تغضّن.. أنهى سي رابح حلق ذقنه، حضّر صينيّة القهوة، سكب فنجانا له و آخر لرفيق عمره، جلس أمام صديقه وقال له: يا الحاج لقد حنّ قلبي للوطن، لقد طار قلبي كعصفور صغير متجّها نحو بلاد أولاد حنّاش، مهما طار طير مهاجر وارتفع إلاّ كما طار رجع، لقد تعبت هنا في هذه المدينة التي شربت من دمِنا و أكلت من لحمِنا، و أنا في هذه السّن لم أعد أحتمل الغُربة، أشعر بأنّني سأموت، و لا أريد أن أموت هنا بين الكفّار، أريد أن يصلّى عليّ في الجامع و أدفن على الطّريقة الإسلامية، يغسّلونني، يكفنونني ويُصلّى علّي، أريد أن أدفن بالحلال يا الحاج.. راح سي رابح ينثر وجعه على مرأى من صاحبه الذي لم يكن بأحسن حال منه.. أصابت كلمات سي رابح موطئا من قلب الحاج فبكى سنين عمره التي راحت هباء منثورا، لا ولدا يحمل اسمه، لا امرأة تقف إلى جانبه في سنوات العمر الخدّاعات، لا امرأة تنتظره في المساء لتنسيه تعب الصّباح، و لا حبيبا أو قريبا يسند الظّهر و يجلب الفخر.. قال سي رابح: ما نفع المال إذا لم تكن لك أسرة تضمّك، ما نفع المال إذا لم يكن لك ولد تُحبّه ويُحبّك، ما نفع المال إذا تغرّبت عن الوطن و ضيّعت سنين العمر أجمعها متجوّلا بين المدن باحثا عن الدّفء، باحثا عن كرامتك التي لم تجدها يوما، ماذا قدّمت لنا الهجرة غير القهر و البؤس والعذاب و الألم.. لقد ندمت يا الحاج وقرّرت التوبة و العودة إلى الله، لقد كرهت هذه الحياة الخدّاعة، لقد غرّنا بُهرج الحياة و زخرفها، ونسينا أنّ لنا ربّا يحبّنا و يعطف علينا، نسينا أنّه وجب علينا الصّوم في شهر رمضان، نسينا أنّنا مسلمون، نسينا أننا مهاجرون غرباء و لسنا أبناء هذا البلد، نسينا أننا جزائريّون يا الحاج، جزائريّون.. قال الحاج مولود علينا أن نبدأ بتصفية كل أمورنا هنا و العودة للوطن يا سي رابح، غدا إن شاء الله سنباشر كل الإجراءات لنتمكن من العودة إلى البلاد في أقرب وقت ممكن، اتّصل بسي قدور و أخبره بقرارنا حتّى يساعدنا .. بدأ الرّجلان في توضيب أغراضهما و الاستعداد للرّحيل بعيدا عن أرض المهجر، طلبا جوازات سفر جديدة، سحبا مبالغ من المال، اقتنيا تذاكر السّفر، أعدّا الحقائب وقرّرا أن يودّعا باريس بلا رجعة.. كانت ليلة من ليالي باريس الباردة، لم ينم الرّجلان وهما يحاولان أن يرسما صورا للجزائر التي لم يزورانها منذ خمسين سنة خلت، بقيا يحلمان بالجزائر، تواعدا على الاستيقاظ باكرا حتّى يتمكنّا من الوصول إلى المطار قبل الموعد المقرّر للرّحلة، طلب سي رابح من الحاج مولود أن يوقظه لأنّه أحسّ بأنّ قلبه انقبض فرحا بعودته المرتقبة إلى أرض الوطن، قال سي رابح: أشعر بأنّني لن أرى الجزائر مثلما حلمت بها، أحسّ بأنّني سأغادر الحياة قبل أن تطأ قدماي أرض أجدادي.. قال الحاج: ما بك يا سي رابح، أرجوك لا تقل هذا الكلام سنعود مع بعض إلى الجزائر، وسنكمل حياتنا هناك، سنتزوّج و نعوّض كلّ الذي قد فات.. قال سي رابح: إن شاء الله، قام فتوضأ للصّلاة، صلّى ركعتين، حمد الله، قرأ بعض الأدعية، ثمّ رمى بجسمه النّحيل على سريره، و قال لصاحبه: تصبح على خير يا الحاج أستودعك الله.. دقّت السّاعة الخامسة صباحا، استيقظ الحاج، حاول إيقاظ سي رابح، نادى عليه: يا سي رابح، سي رابح، سي رابح، استيقظ يا كسول لقد حان وقت المغادرة.. يبدو أنّ سي رابح لم يرد أن يجيب صديقه هذه المرّة بعدما أجابه طول عمره.. اقترب الحاج من سي رابح، سحب الغطاء من على جسمه، ربّت على كتفه قائلا: يا سي رابح، سي رابح.. لم يجب.. في لحظة واحدة انقلب كلّ شيء، تغيّرت كلّ المعطيات، رحلت كلّ الأمنيات وطارت كلّ الرّحلات إلاّ رحلة سي رابح نحو الوطن.. لقد توفي سي رابح.. ياه، لم يكن الحاج مولود ينتظر ذلك، لم يكن ينتظر أن يزور الجزائر مشيّعا لرفيق الدّرب، لم يكن الحاج يفكّر لحظة أن يفارقه صاحبه بتلك الطّريقة.. بكّاه بحرقة المُحبّين، كفّنه، غسّله وصلّى عليه صلاة المسلمين، ودّعه إلى الأبد لكنّه حمل ذكراه الطّيبة في قلبه و وعده أن يلتقي به في جنان الخالدين.. – تمّت -