أحمد بلقمري
عضو مساهم
- البلد/ المدينة :
- برج بوعريريج/ الجزائر
- العَمَــــــــــلْ :
- مستشار التوجيه و التقييم و الإدماج المهنيين
- المُسَــاهَمَـاتْ :
- 173
- نقاط التميز :
- 292
- التَـــسْجِيلْ :
- 07/09/2011
بنتُ القُمْرِي..
دخل زمن الصّيف و حنّت ربيحة إلى طائرها القُمْري الذّي لم يعد يطلّ على نافذة عمرها كلّ صباح مثلما وعدها وعوّدها على ذلك.. مرّت كلّ الفصول على بلاد أولاد حنّاش و بقيت ربيحة كعادتها باحثة عن أصلها و فصْلها وقُمرِيّها الذّي تُشبهه و يُشبهها.. كما القُمْري المهاجر بين ربوع الأرض، تهاجر ربيحة بتراتيل قلبها و إيمانها بعيدا عن دنيا النّاس وشرورهم.. على عادة النسوة في أولاد حنّاش تشدّ ربيحة نطاقها بمحرُمة من الكتّان الحرّ، تُعصّب رأسها بعصابة، وتخرج طالبة قمريّها الذّي لم يرجع بعد.. تسأل ربيحة خالقها عن القُمْري: يا فتّاح، يا عليم.. أين هو القمري الذي يأتيني بالإشارة.. يا شمس الله، أين هو قُمريّ حياتي و نور عينيّ.. يا شمس الله، يا بحر، يا جبال، دلّوني على طائري.. يا ناس ما لي أراكم تائهين، مائلين، مُميلين عن الحقّ، يا عباد الله، اخرجوا لحصاد سنابلكم، هذه شمس الصّباح تناديكم.. يا أهلي و إخوتي، اجمعوا قوتكم و انثروا الحُبّ كما الحَبّ بينكم إنّي أراكم وهنتم.. يا أبناء القمري، هذي عيون القُمري تفور مياها نقيّة طاهرة، ارتووا من مائها و لا تختلفوا، يا أولاد عبد الله، يا أولاد الحاج، هذه أنا بنتكم و أختكم توصيكم خيرا بأنفسكم، لا تفرقّوا، لا تكونوا في القرية فضّا.. تقول ربيحة هذا الكلام من على ربوة تُطلّ على كل البيوت الواهية، ثم تعود لتركب بغلتها وتحمل للفلاّحين غدائهم.. في الطّريق تلتقي ربيحة بعابري السّبيل فتمدّهم بالطّعام و تُفضِلُ عليهم بالحِكمة ثمّ ترجع إلى النّسوة لتأتي بنصيب آخر ممّا كتبه الله، حليبا وقطعا من الكسرة في الغالب.. في القرية يقف التّومي شقيق ربيحة على أصابع قدميه، يتلظّى غيظا، يكتُم الأنفاس، يتفقّح للشرّ،ويسبّ سيّدة القوم.. - يا الجائحة، تصدّقت بالطّعام و بقينا نحن بلا غداء، من أين تأتينا القوّة لنكمل حصاد سُنبلنا ؟.. - من عند الله تأتي القوّة يا التُومي، يا ابن أمّي.. اتقّي الله يا رجل، هؤلاء عابرو سبيل.. - كلّنا نعرف الله يا الجائحة، أحسبت نفسك مرابطة أو نبيّة، تبّا لك.. قال التّومي ذلك وانصرف.. نادته ربيحة: يا التّومي، اذهب فقد منحك الله ذرّا وجائحا.. بدأت كرامات الله تجري على يديّ ربيحة التقيّة الورعة، وبدأ التّومي يفطأ قومه.. في الرّحبة نُصبت الخيام، و تجمّع النّاس لحضور عرس النُوّي.. في العادة يحضر القصّاب و يُغنّي الرّجال ما جادت به قرائحهم من طيب الكلام.. راح القصّاب يداعب القصبة، علت على وجوه النّاس علامات الفرح والمرح إلاّ التومي الذّي لم يكن مرتاحا البتّة، راح كالمُقرف يوزّع شرّه قائلا: يا ناس القرية جينا اليوم قسّارة و الحالة راهي مستورة، وعلاه القصاب يقصّر القندورة.. أطلق القصّاب أعزوفة طويلة حتّى كادت روحه تخرج معها ثمّ أجاب: يا سي التّومي، المُعطي هو الله، الرّازق هو الله، و الحُسد هذا الكلّ علاه.. يا سي التّومي راك كنت فينا زين الرجال، و اليوم راك فسّدت لحوال، و أنا راني نحيتك من البال.. يا خاوتي ما تلوّمُوا عليّ، جيت نفرحكم يا مواليّ، بصح بعد اللّي سمعت ما بقى لي كلام بعد كلام أمنا ربيحة لولية.. تفقفق التّومي في كلامه، طلب سكينا، تناول طرف قندورته ومرّر السّكين على كسوته حتّى غدا عاريا كما ولدته أمّه، انفض النّاس بعد الذّي رأوه، وراحوا يقولون: سي التوّمي جنّ، سي التّومي جنّ.. خرجت ربيحة من بين النّاس، نادت بأعلى صوتها قائلة: يا أبنائي، يا أبناء القمري، كونوا كاسمكم أقمارا يستضاء بنورها، كونوا كحبّات المطر تحيي الأرض من بعد موتها.. يا أولاد حنّاش، اخلعوا جلد الثّعابين، تحابّوا.. يا أبنائي هذا حصادكم وها أنذا بينكم، لا تضيّعوا الأمانة، لا تباعدوا.. يا أبنائي ها قد أوصيتكم فتمسّكوا بوصاياي.. يا التّومي يا أخي، واش ربحت بعد اللّي قلت.. يا التّومي أنا ما رانيش مقمّلة كيما قلت، أنا ربيحة بنت القمْري، و الشّارة خرجت فيك، الله يهديك.. قالت ربيحة كلامها، ثمّ توارت عن أعين الناس، لبثت بحجرتها لأسبوع كامل، بقيت الزّهرة تخدمها، بدأت صحّتها تتدهور، زارها القمْري أخيرا، وقف على كوّتها، شذى بألحان الوداع، وطار، طار حتّى عانقت أجنحته عباب السّماء، فاضت روح ربيحة الوليّة بطيران قُمريّها، ماتت ربيحة و تبدّلت أحوال الطّقس، هبّت عاصفة ثلجيّة شديدة، و يكأنّ كلّ الكائنات حزنت لفراق المرأة الصّالحة، اشتدّت العاصفة، اشتدّ جنونُ التّومي الذي خرج باحثا عن ابنه النّوي الذي دفنته الثلوج، لم يُرد حضور جنازة أخته، ابنة أمّه و أبيه.. ناب القمارة عن التّومي في دفن ربيحة، حاولوا أن يخرجوا بها إلى مقبرة القرية إلا أنّ الرّيح منعتهم وكأنّها أشارت عليهم بدفنها في حجرتها، بنوا مقاما لوليّتهم فخالفوا وصيّتها يوم قالت: ألا لا تتخذوا قبري مسجدا، فأنا بشر مثلكم أجرى الله على يدي كراماته، أنا لست نبيّة، أنا أختكم و ابنتكم أحببت الله فأحبّني، أيّها النّاس: أنا منكم و إليكم..
قلم: أحمد بلقمري
دخل زمن الصّيف و حنّت ربيحة إلى طائرها القُمْري الذّي لم يعد يطلّ على نافذة عمرها كلّ صباح مثلما وعدها وعوّدها على ذلك.. مرّت كلّ الفصول على بلاد أولاد حنّاش و بقيت ربيحة كعادتها باحثة عن أصلها و فصْلها وقُمرِيّها الذّي تُشبهه و يُشبهها.. كما القُمْري المهاجر بين ربوع الأرض، تهاجر ربيحة بتراتيل قلبها و إيمانها بعيدا عن دنيا النّاس وشرورهم.. على عادة النسوة في أولاد حنّاش تشدّ ربيحة نطاقها بمحرُمة من الكتّان الحرّ، تُعصّب رأسها بعصابة، وتخرج طالبة قمريّها الذّي لم يرجع بعد.. تسأل ربيحة خالقها عن القُمْري: يا فتّاح، يا عليم.. أين هو القمري الذي يأتيني بالإشارة.. يا شمس الله، أين هو قُمريّ حياتي و نور عينيّ.. يا شمس الله، يا بحر، يا جبال، دلّوني على طائري.. يا ناس ما لي أراكم تائهين، مائلين، مُميلين عن الحقّ، يا عباد الله، اخرجوا لحصاد سنابلكم، هذه شمس الصّباح تناديكم.. يا أهلي و إخوتي، اجمعوا قوتكم و انثروا الحُبّ كما الحَبّ بينكم إنّي أراكم وهنتم.. يا أبناء القمري، هذي عيون القُمري تفور مياها نقيّة طاهرة، ارتووا من مائها و لا تختلفوا، يا أولاد عبد الله، يا أولاد الحاج، هذه أنا بنتكم و أختكم توصيكم خيرا بأنفسكم، لا تفرقّوا، لا تكونوا في القرية فضّا.. تقول ربيحة هذا الكلام من على ربوة تُطلّ على كل البيوت الواهية، ثم تعود لتركب بغلتها وتحمل للفلاّحين غدائهم.. في الطّريق تلتقي ربيحة بعابري السّبيل فتمدّهم بالطّعام و تُفضِلُ عليهم بالحِكمة ثمّ ترجع إلى النّسوة لتأتي بنصيب آخر ممّا كتبه الله، حليبا وقطعا من الكسرة في الغالب.. في القرية يقف التّومي شقيق ربيحة على أصابع قدميه، يتلظّى غيظا، يكتُم الأنفاس، يتفقّح للشرّ،ويسبّ سيّدة القوم.. - يا الجائحة، تصدّقت بالطّعام و بقينا نحن بلا غداء، من أين تأتينا القوّة لنكمل حصاد سُنبلنا ؟.. - من عند الله تأتي القوّة يا التُومي، يا ابن أمّي.. اتقّي الله يا رجل، هؤلاء عابرو سبيل.. - كلّنا نعرف الله يا الجائحة، أحسبت نفسك مرابطة أو نبيّة، تبّا لك.. قال التّومي ذلك وانصرف.. نادته ربيحة: يا التّومي، اذهب فقد منحك الله ذرّا وجائحا.. بدأت كرامات الله تجري على يديّ ربيحة التقيّة الورعة، وبدأ التّومي يفطأ قومه.. في الرّحبة نُصبت الخيام، و تجمّع النّاس لحضور عرس النُوّي.. في العادة يحضر القصّاب و يُغنّي الرّجال ما جادت به قرائحهم من طيب الكلام.. راح القصّاب يداعب القصبة، علت على وجوه النّاس علامات الفرح والمرح إلاّ التومي الذّي لم يكن مرتاحا البتّة، راح كالمُقرف يوزّع شرّه قائلا: يا ناس القرية جينا اليوم قسّارة و الحالة راهي مستورة، وعلاه القصاب يقصّر القندورة.. أطلق القصّاب أعزوفة طويلة حتّى كادت روحه تخرج معها ثمّ أجاب: يا سي التّومي، المُعطي هو الله، الرّازق هو الله، و الحُسد هذا الكلّ علاه.. يا سي التّومي راك كنت فينا زين الرجال، و اليوم راك فسّدت لحوال، و أنا راني نحيتك من البال.. يا خاوتي ما تلوّمُوا عليّ، جيت نفرحكم يا مواليّ، بصح بعد اللّي سمعت ما بقى لي كلام بعد كلام أمنا ربيحة لولية.. تفقفق التّومي في كلامه، طلب سكينا، تناول طرف قندورته ومرّر السّكين على كسوته حتّى غدا عاريا كما ولدته أمّه، انفض النّاس بعد الذّي رأوه، وراحوا يقولون: سي التوّمي جنّ، سي التّومي جنّ.. خرجت ربيحة من بين النّاس، نادت بأعلى صوتها قائلة: يا أبنائي، يا أبناء القمري، كونوا كاسمكم أقمارا يستضاء بنورها، كونوا كحبّات المطر تحيي الأرض من بعد موتها.. يا أولاد حنّاش، اخلعوا جلد الثّعابين، تحابّوا.. يا أبنائي هذا حصادكم وها أنذا بينكم، لا تضيّعوا الأمانة، لا تباعدوا.. يا أبنائي ها قد أوصيتكم فتمسّكوا بوصاياي.. يا التّومي يا أخي، واش ربحت بعد اللّي قلت.. يا التّومي أنا ما رانيش مقمّلة كيما قلت، أنا ربيحة بنت القمْري، و الشّارة خرجت فيك، الله يهديك.. قالت ربيحة كلامها، ثمّ توارت عن أعين الناس، لبثت بحجرتها لأسبوع كامل، بقيت الزّهرة تخدمها، بدأت صحّتها تتدهور، زارها القمْري أخيرا، وقف على كوّتها، شذى بألحان الوداع، وطار، طار حتّى عانقت أجنحته عباب السّماء، فاضت روح ربيحة الوليّة بطيران قُمريّها، ماتت ربيحة و تبدّلت أحوال الطّقس، هبّت عاصفة ثلجيّة شديدة، و يكأنّ كلّ الكائنات حزنت لفراق المرأة الصّالحة، اشتدّت العاصفة، اشتدّ جنونُ التّومي الذي خرج باحثا عن ابنه النّوي الذي دفنته الثلوج، لم يُرد حضور جنازة أخته، ابنة أمّه و أبيه.. ناب القمارة عن التّومي في دفن ربيحة، حاولوا أن يخرجوا بها إلى مقبرة القرية إلا أنّ الرّيح منعتهم وكأنّها أشارت عليهم بدفنها في حجرتها، بنوا مقاما لوليّتهم فخالفوا وصيّتها يوم قالت: ألا لا تتخذوا قبري مسجدا، فأنا بشر مثلكم أجرى الله على يدي كراماته، أنا لست نبيّة، أنا أختكم و ابنتكم أحببت الله فأحبّني، أيّها النّاس: أنا منكم و إليكم..
قلم: أحمد بلقمري