عماد الدين علاق
طاقم الكتاب الحصريين
- رقم العضوية :
- 39830
- البلد/ المدينة :
- زريبة الوادي
- المُسَــاهَمَـاتْ :
- 2299
- نقاط التميز :
- 3257
- التَـــسْجِيلْ :
- 29/03/2012
وصول الرسالة
وقد وصلت الرسالة التي بحرها بالحكم مسجور ومن قرأها مأجور، إذ كانت تأمر بتقبُّل الشرع، وتعيب من ترك أصلاً إلى فرع. وغرقت في أمواج بدعها الزاخرة، وعجبت من اتسِّاق عقودها الفاخرة، ومثلها شفع ونفع، وقرّب عند الله ورفع. وألفيتها مفتحةً بتمجيدٍ، صدّر عن بليغٍ مجيد، وفي قدرة ربّنا، جلَّت عظمته، أن يجعل كلّ حرف منها شبح نورٍ، لا يمتزج بمقال الزُّور؛ يستغفر لمن أنشأها إلى يوم الدين، ويذكره ذكر محبٍ خدين. ولعلّه، سبحانه، قد نصب لسطورها المنجية من اللَّهب، معاريج من الفضة أو الّذهب، تعرج بها الملائكة من الأرض الراكدة إلى السماء، وتكشف سجوف الظلماء، بدليل الآية: إليه يصعد الكلم الطَّيب والعمل الصّالح يرفعه.
[عدل]شجرة طيبة
وهذه الكلمة الطيبة كأنّها المعنيّة بقوله: ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمّة طيّبةً كشجرةً طيّبةٍ، أصلها ثابت وفرعها في السّمّاء، تؤتي أكلها كلّ حينٍ بإذن ربها. وفي تلك السطور كلم كثير، كلّه عند الباري، تقدّس، أثير. فقد غرس لمولاي الشيخ الجليل، إن شاء الله، بذلك الثناء، شجر في الجنة لذيذ اجتناءً، كلُّ شجرةٍ منه تأخذ ما بين المشرق إلى المغرب بظلٍّ غاطٍّ ليست في الأعين كذات أنواطٍ. وذات أنواطٍ، كما يعلم، شجرة كانوا يعظمونها في الجاهلية. وقد روي أن بعض الناس قال: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواطٍ، وقال بعض الشعراء:
لنا المهيمن يكفينا أعادينا كما رفضنا إليه ذات أنواط
والولدان المخلّدون في ظلال تلك الشجر قيام وقعود، وبالمغفرة نيلت السُّعود؛ يقولون، والله القادر على كلِّ شيء عزيز: نحن وهذه الشجر صلّة من الله لعليّ بن منصور، نخبأ له إلى نفخ الصُّور. وتجري في أصول ذلك الشجر، أنهار تختلج من ماء الحيوان، والكوثر يمدُّها في كلّ أوانٍ؛ من شرب منها النُّغبة فلا موت، قد أمن هنالك الفوت. وسعد من اللبن متخرِّفات، لا تغيَّر بأن تطول الأوقات. وجعافر من الرحيق المختوم، عزَّ المقتدر على كلّ محتوم. تلك الراح الدائمة، لا الذميمة ولا الذائمة، بل هي علقمة مفترياً، ولم يكن لعفوٍ مقترياً:
تشفي الصُّداع ولا يؤذيه صالبها ولا يخالط منها الرأس تدويم
ويعمد إليها المغترف بكؤوس من العسجد، وأباريق خلقت من الزبرجد، ينظر منها الناظر إلى بديّ، ما حلم به أبو الهنديّ، رحمه الله، فلقد آثر شراب الفانية، ورغب في الدّنية الدّانية. ولا ريب أنّه يروي ديوانه، وهو القائل:
سيغني أبا الهنديّ عن وطب سالمٍ أباريق لم يعلق بها وضر الزُّبد
مفدمة قزّاً كأنّ رقابها رقاب بنات الماء أفزعها الرعد
هكذا ينشد على الإقواء وبعضهم ينشد:
رقاب بنات الماء ريعت من الرعد .........................
والرواية الأولى إنشاد النحويين. وأبو الهندي إسلاميٌّ، واسمه عبد المؤمن بن عبد القدُّوس، وهذان اسمان شرعيان، وما استشهد بهذا البيت إلا وقائله عند المستشهد فصيح، فإن كان أبو الهنديّ ممن كتب وعرف حروف المعجم فقد أساء في الإقواء، وإن كان بنى الأبيات على السكون، فقد صحَّ قول سعيد بن مسعدة، في أن الطويل من الشعر له أربعة أضرب. ولو رأى تلك الأباريق أبو زبيد لعلم أنّه كالعبد الماهن أو العبيد، وأنّه ما تشبّث بخيرٍ، ورضي بقليل المير وهزىء بقوله:
وأباريق مثل أعناق طير ال ماء قد جيب فوقهن خنيف
هيهات ! هذه أباريق، تحملها أباريق، كأنّها في الحسن الأباريق. فالأولى هي الأباريق المعروفة، والثانية من قولهم: جارية إبريق، إذا كانت تبرق من حسنها: قال الشاعر:
وغيداء إبريقٍ كأن رضابها جنى النحل ممزوجاً بصهباء تاجر
والثالثة، من قولهم: سيف إبريق، مأخوذ من البريق. قال ابن أحمر:
تقلدت إبريقاً، وعلقت جعبةً لتهلك حيّاً ذا زهاءٍ وجامل
ولو نظر إليها علقمة لبرق وفرق، وظنَّ أنه قد طرق، وأين يراها المسكين علقمة، ولعله في نار لا تغير، ماؤها للشارب وغيرٌ؟ ما ابن عبدة وما فريقه؟؟؟! خسر وكسر إبريقه! أليس هو القائل:
كأن إبريقهم ظبيٌ برابيةٍ مجللٌ، بسبا الكتّان مفدوم
أبيض أبرزة للضَّحّ راقبه مقلد قضب الرَّيحان، مفغوم
نظرةٌ إلى تلك الأباريق، خيرٌ من بيت الكرمة العاجلية، ومن كل ريقٍ، ضمنته هذه الدار الخادعة، التي هي لكلَّ شممٍ جادعةٌ. ولو بصر بها عدي بن زيد، لشغل عن المدام والصَّيد، واعترف بأن أباريق مدامه، وما أدرك من شرب الحيرة وندامه، أمرٌ هينٌ، لا يعدل بنابتٍ من حمصيص، أو ما حقر من خربصيص. وكنت بمدينة السّلام، فشاهدت بعض الورّاقين يسأل عن قافية عدي ابن زيد التي أوّلها:
كر العاذلات في غلس الصُّب ح يعاتبنه أما تستفيق؟
ودعا بالصَّبوح فجراً، فجاءت قينةٌ في يمينها إبريق
وزعم الورَّاق أن ابن حاجب النعمان سأل عن هذه القصيدة وطلبت في نسخٍ من ديوان عديّ فلم توجد. ثمّ سمعت بعد ذلك رجلاً من أهل أستراباذ، يقرأ هذه القافية في ديوان العباديّ، ولم تكن في النسخة التي في دار العلم: فأمّا الأقَّيشر الأسديّ فإنه مني بقاشر، وشقي إلى يومٍ حاشر، قال ولعله سيندم، إذا تفرَّى الأدم:
أفنى تلاديّ، وما جمعت من نشبٍ قرع القوازيز أفواه الأباريق
ما هو وما شرابه؟ تقضَّت في الحانية آرابه. لو عاين تلك الأباريق لأيقن أنّه فتن بالغرور، وسرَّ بغير موجب للسّرور. وكذلك إياس بن الأرتّ، إن كان عجب لأباريق كإوزّ الطَّفّ فإن الحوادث بسطت له أقبض كفّ. فكأنه ما قال:
كأن أباريق المدامة بينهم إوزٌّ بأعلى الطَّفّ، عوج الحناجر
ورحم الله العجَّاج، فإنّه خلط في رجزه العلبط والسَّجاج، أين إبريقه الذي ذكر فقال:
قطَّف من أعنابها ما قطفَّا، فغمَّها حولين، ثمّ استودفا
صهباء، خرطوماً، عقاراً، فرقفا، فسنَّ في الإبريق منها نزفا
من رصفٍ نازع سيلاً رصفا وكم على تلك الأنهار من آنية زبرجدٍ محفور، وياقوتٍ خلق على خلق الفور، من أصفر وأحمر وأزرق، يخال إن لمس أحرق، كما قال الصنوبريُّ: تخيَّله ساطعاً وهجه، ... فتأبى الدُّنو إلى وهجه وفي تلك الأنهار أوانٍ على هيئة الطير السابحة، والغانية عن الماء السائحة، فمنها ما هو على صور ال+ي، وأخر تشاكل المكاكيّ، وعلى خلق طواويس وبطّ، فبعضٌ في الجارية وبعضٌ في الشَّطّ،
[عدل]خمر الجنة
نبع من أفواهها شرابٌ، كأنه من الرَّقَّة سرابٌ، لو جرع جرعةً منه الحكميُّ لحكم أنّه الفوز القدميُّ. وشهد له كلُّ وصَّاف الخمر، من محدثٍ في الزمن وعتيق الأمر، أنّ أصناف الأشربة المنسوبة إلى الدار الفانية، كخمر عانة وأذرعات، وهي مظنَّةٌ للنُّعّات؛ وغزّة وبيت راس والفلسطية ذوات الأحراس؛ وما جلب من بصرى في الوسوق، تبغى به المرابحة عند سوق، وما ذخره ابن بجرة ب وجّ، واعتمد به أوقات الحجّ، قبل أن تحرَّم على الناس القهوات، وتحظر لخوف الله الشهوات. قال أبو ذؤيب:
ولو أنَّ ما عند ابن بجرة عندها من الخمر، لم تبلل لهاتي بناطل
وما اعتصر بصرخد أو أرض شبام لكلّ ملكٍ غير عبام؛ وما تردَّد ذكره من كميت بابل وصريفين واتُّخذ للأشراف المنيفين؛ وما عمل من أجناس المسكرات، مفوّقاتٍ للشارب وموكّرات، كالجعة والبتع والمزر والسُّكركة ذات الوزر؛ وما ولد من النخبل، لكريمٍ يعترف أو بخيل، وما صنع في أيَّام آدم وشيثٍ إلى يوم المبعث من معجَّلٍ أو مكيث إذ كانت تلك النُّطفة ملكةً، لا تصلح أن تكون برعاياها مشتبكة.
ويعارض تلك المدامة أنهارٌ من عسلٍ مصفَّى ما كسبته النحل الغادية إلى الأنوار، ولا هو في مومٍ متوارٍ، ولكن قال له العزيز القادر: كن فكان، وبكرمه أعطي الإمكان. واهاً لذلك عسلاً لم يكن بالنار مبسلا لو جعله الشارب المحرور غذاءه طول الأبد ما قدر له عارض موم، ولا لبس ثوب المحموم؛ وذلك كلُّه بدليل قوله: مثل الجنة التي وعد المتُّقون، فيها أنهار من ماءٍ غير آسنٍ، وانهارٌ من لبنٍ لم يتغير طعمه، وأنهارٌ من خمرٍ لذّةٍ للشّاربين، وأنهارٌ من عسلٍ مصفًّى، ولهم فيها من كلّ الثّمرات، فليت شعري عن النَّمر بن تولبٍ العكليّ، هل يقدر له أن يذوق ذلك الأري، فيعلم أن شهد الفانية إذا قيس غليه وجد يشاكه الشَّري؛ وهو لمَّا وصف أمّ حصٍن وما رزقته في الدَّعة والأمن، ذكر حوّارى بسمن، وعسلٍ مصفًّى؛ فرحمه الخالق متوفّىً،فقد كان أسلم وروي حديثاً منفرداً، وحسبنا به للكلم مسردّاً. قال المسكين النمر:
ألمّ بصحبتي، وهم هجوعٌ، خيالٌ طارقٌ من أمّ حصن
لها ما تشتهي: عسلاً مصًّفى، إذا شاءت، وحوَّارى بسمن
وهو، أدام الله تمكينه، يعرف حكاية خلفٍ الأحمر مع أصحابه في هذين البيتين، ومعناها أنّه قال لهم: لو كان موضع أمّ حصن أمُّ حفص، وما كان يقول في البيت الثاني؟ فسكتوا، فقال: حوّاريّ بلمص، يعني الفالوذ ويفرّع على هذه الحكاية فيقال: لو كان مكان أمّ حصن أمُّ جزء وآخره همزةٌ،ما كان يقول في القافية الثانية؟ فإنّه يحتمل أن يقول: وحوارى بكشء،ٍ من قولهم: كشأت اللحم إذا شويته حتى ييبس، ويقال: كشأ الشواء إذا أكله. أو يقول بوزء، من قولهم: وزأت اللحم إذا شويته. ولو قال: حوَّارى بنسء، لجاز وأحسن ما يتأؤّل فيه، أن يكون من نسأ الله في أجله، أي لها خبزٌ مع طول حياة، وهذا أحسن من أن يحمل على أن النسء اللبن الكثير الماء، وقد قيل: إن النسء الخمر، وفسروا بيت عروة بن الورد على الوجهين:
سقوني النّسء ثم تكنَّفوني، عداة الله من كذبٍ وزور
ولو حمل حوّارى بنسء، على اللبن أو الخمر، لجاز،لأنّها تأكل الحوارى بذلك، أي لها الحوَّارى مع الخمر، وقد حدّث محدّثٌ أنه رأى بسيل ملك الروم وهو يغمس خبزاً في خمرٍ ويصيب منه، ولو قيل: حوَّارى بلزء، من قولهم: لزأ إذا أكل، لما بعد، وتكون الباء في بلزء بمعنى في. ولا يمكن أن يكون رويُّ هذا البيت ألفاً، لأنّها لا تكون إلاّ ساكنة، وما قبل الرويّ ها هنا ساكنٌ، فلا يجوز ذلك. فإن خرج إلى الباء: من أمّ حرب، جاز أن يقول: وحوَّارى بصرب، وهو اللبن الحامض، ويجوز بإرب، أي بعضوٍ من شواءٍ أو قديد، ويجوز بكشب وهو أكل الشواء. فإن قال: من أمّ صمت، جاز أن يقول: وحواري بكمت، يعني جمع تمرةٍ كميت، وذلك من صفات التمر، وينشد للأسود ابن يعفر:
وكنت إذا ما قرَّب الزاد مولعاً بكلّ كميتٍ جلدةٍ لم توسَّف
وقال الأخر:
ولست أبالي بعدما اكمتَّ مربدي من التمر، أن لا يمطر الأرض كوكب
ويجوز وحوَّارى بحمت، من قولهم: تمرٌ حمتٌ، أي شديد الحلاوة. فإن أخرجه إلى الثاء فقال: من أمّ شثّ، قال: وحوَّارى ببثّ، والبثُّ: تمرٌ لم يجد كنزه فهو متفرق. فإن أخرجه إلى الجيم فقال: أمّ لجّ، جاز أن يقول: وحوّارى بدجّ، والدُّجُّ: الفرُّوج، جاء به العمانيُّ في رجزه. فإن خرج إلى الحاء، فقال: من أمّ شحّ، جاز أن يقول: وحوارى بمحّ، وببحّ، وبرّح، وبجحّ، وبسحّ. فالمحُّ: محّ البيضة، وبحُّ: جمع أبحَّ، من قولهم: كسرٌ أبحُّ، أي كثير الدّسم، وقال:
وعاذلة هبَّت عليَّ تلومني، وفي كفّها كسرٌ أبحٌ رذوم
ويجوز أن يعنى بالبحّ القداح، أي هذه المرأة أهلها أيسار، كما قال السُّلميُّ:
قروا أضيافهم ربحاً ببحّ، يعيش بفضلهنَّ الحيُّ، سمر
ورحٌّ: جمع أرحَّ، وهو من صفات بقر الوحش، أي يصاد لهذه المرأة، ويقال لأظلاف البقر: رحٌّ، قال الشاعر الأعشى:
ورحٌّ بالزّماع مردَّفاتٌ، بها تنضو الوغى وبها ترود
والسحُّ: تمرٌ صغير يابس. والجحُّ: صغار البطيخ قبل أن ينضج. فإن قال: أمُّ دخّ، قال: حوَّارى بمخّ، ونحو ذلك. فإن قال: أمّ سعد، قال: حوَّارى بثعد، وهو الرُّطب الذي لان كلُّه. فإن قال: أمّ وقذ، قال:حوارى بشقذ، وهي فراخ الحجل. فإن قال: أمّ عمرو، فإنَّ أشبه ما يقول: حوّارى بتمر. فإن قال: أمّ كرز، فإن أشبه ما يقول: وحوَّارى بأرز، وفيه لغات ستّ: أرزٌ على وزن أشدّ، وأرزّ على صملّ، وأرزٌ على وزن شغل، وأرزٌ في وزن قفل، ورزّ مثل جدٍّ، ورنز، بنونٍ وهي رديئة. فإن قال: أمّ ضبس، قال: وحوّارى بدبس. والعرب تسمّي العسل دبساً. وكذلك فسروا قول أبي زبيد:
فنهزةٌ من لقوا حسبتهم أشهى إليه من بارد الدبس
حرَّك للضرورة. فإن قال: من أمّ قرشٍ، جاز أن يقول: حوَّارى بورش، والورش: ضربٌ من الجبن، ويجوز أن يكون مولَّداً، وبه سمّي ورشٌ الذي يروي عن نافع واسمه عثمان بن سعيد. والصاد قد مضت. فإن قال: أمّ غرض، جاز أن يقول: حوَّارى بفرض، والفرض: ضربٌ من التمر، قال الراجز:
إذا أكلت لبناً وفرضا ذهبت طولاً وذهبت عرضاً
وفي نصب طول وعرض اختلافٌ بين المبرّد وسيبويه. فإن قال: من أمّ حظّ، فإن الأطعمة تقلُّ فيها الظاء، كقلَّتها في غيرها، لأن الظاء قليلةٌ جدّاً، ويجوز أن يقول: حوَّارى بكظّ، أي يكظّها الشّبع، أو نحو ذلك من الأشياء التي تدخل على معنى الاحتيال. فإن قال: أمّ طلع، جاز أن يقول: حوَّارى بخلع، والخلع: هو اللحم الذي كان يطبح ويحملونه في القروف وهي أوعيةٌ من أدم، وينشد:
كلي اللحم الغريض، فإنَّ زادي لمن خلعٍ تضمنَّه القروف
فإن قال: أمّ فرع، جاز أن يقول: حوَّارى بضرع، لأن الضروع تطبخ، وربمّا تطرب إلى أكلها الملوك فإن قال: أمّ مبغ، قال: حوّارى بصبغ، والصبَّغ ما تغمس فيه اللقمة من مرقٍ أو زيت أو خلٍّ. فإن قال: أمّ نخف، قال: حوَّارى برخف، والرخف زبدٌ رقيق، والواحدة رخفة، قال الشاعر:
لنا غنمٌ يرضي النزيل حليبها، وزحفٌ يغاديه لها وذبيح
فإن قال: أمّ فرق، قال: حوّارى بعرقٍ، والعرق: عظمٌ عليه لحمٌ من شواءٍ أو قديد. فإن قال: أمّ سبك، جاز أن يقول: حوّارى بربك، أو بلبك، من قولهم: ربكت الطعام أو لبكته، إذا خلطته، وكان ذلك ممّا فيه رطوبةٌ، مثل أن يخالطه لبنٌ أو سمنٌ، أو نحو ذلك، ولا يقال: ربكت الشعير بالحنطة، إلاّ أن يستعار. فإن قال: أمّ تخل، قال: حوّارى برخل، يريد الأنثى من أولاد الضأن، وفيه أربع لغات: رَخِل ورَخْلٌ ورِخْلٌ ورِخِلٌ. فإن قال: أمّ صرم، قال: حوارى بطرم، والطرم: العسل، وقد يسمَّى السمن طرماً. وقد مضت النون في أمّ حصن. فإن قال: أم دوّ، قال: حو؟ّارى بجوّ، والحوُّ: الجدي، فيما حكى بعض أهل اللغة في قولهم: ما يعرف حوّاً من لوٍّ، أي جدياً من عناقٍ. فإن قال: أمّ كره، قال: حوّارى بوره، يريد جمع أوره، من قولهم: كبشٌ أوره، أي سمين. فإن قال: أمّ شري، قال: حوارى بأري، أي عسل. وهذا فصل يتّسع، وإنمّا عرض في قول تامٍ، كخيال طرق في المنام. ولو خالط منا من عسل الجنان، وما خلقه الله، سبحانه، في هذه الدار الخادعة، كالصاب، والمقر، والسَّلع، والجعدة، والشَّيح، والهبيد، لعاد ذلك كلُّه، وغيره من المعقبات، يعدُّ من اللذائذ المرتقيات، فآض ما كره من الصَّاب، كأنَّه المعتصر من المصاب، والمصاب: قصب السكر، وأمسى الحدج وكأنّه المتخذٌّ بالأهواز، إلاّ يكن السُّكرّ، فإنه موازٍ؛ ولصارت الراعية في الإبل، إذا وجدت الحنظلة أتحفت بها السيدة المحظلة، وهي التي تعظم عليها الغيرة، من قولهم: حظل نساءه، إذا أفرط في الغيرة عليهنَّ، قال الراجز:
ولا ترى بعلاً ولا حلائلا كه، ولا كهنَّ إلا حاظلا
وانقطعت معايش أرباب القصب في ساحل البحر، وصنع من المرّ الفالوذ المحكم بلا سحر أي بلا خدع. ولو أن الحارث بن كلدة طعم من ذلك الطّريم لعلم أن الذي وصفه يجري من هذا المنعوت، مجرى الدّفلى الشّاقة من الرّعديد، ومدوف، ما يكره من القنديد، وذكرت الحارث بقوله:
فما عسلٌ ببارد ماء مزنٍ على ظماءٍ، لشاربه يشاب
بأشهى من لقيكم إلينا،|فكيف لنا به، ومتى الإياب}}
كذلك السَّلوى التي ذكرها الهذلي هي عند عسل الجنّة كأنَّها قارٌ رمليَّ، والقار: شجرٌ مرّ ينبت بالرَّمل، قال: بشرٌ:
يرجون الصَّلاح بذات كهفٍ، وما فيها لهم سلعٌ وقار
وعنيت قول القائل:
فقاسمها بالله جهداً لأنتم ألذُّ من السَّلوى إذا ما نشورها
وإذا من الله تبارك اسمه بورود تلك النهار، صاد فيها الوارد سمك حلاوةٍ، لم ير مثله في ملاوة، لو بصر به أحمد بن الحسين لاحتقر الهدية التي أهديت إليه فقال فيها:
أقل ما في أقلّها سمكٌ، يلعب في بركةٍ من العسل
فأمَّا الأنهار الخمريّة، فتلعب أسماكٌ هي على صور السَّمك بحريَّةٌ ونهريّة، وما يسكن منه في العيون النَّبعية، ويظفر بضروب النَّبت المرّعية، إلاّ أنّه من الذَّهب والفضّة وصنوف الجواهر، المقابلة بالنُّور الباهر. فإذا مدّ المؤمن يده إلى واحدةٍ من ذلك السَّمك، شرب من فيها عذباً لو وقعت الجرعة منه في البحر الذي لا يستطيع ماءه الشارب، لحلت منه أسافل وغوارب؛ ولصار الصمَّر كأنَّه رائحة خزامى سهلٍ، طلتَّه الدَّاجنة بدهل، والدَّهل: الطائفة من اللَّيل، أو نشر مدامٍ خوَّارةٍ، سيَّارةٍ في القلل سوَّارة. وكأنّي به، أدام الله الجمّال ببقائه، إذا استحقَّ تلك الرُّتبة، ببقين التوبة، وقد اصطفى له نامى من أدباء الفردوس: كأخي ثمالة، وأخي دوسٍ، ويونس بن حبيب الضُّبيّ، وابن مسعدة المجاشعيّ، فهم كما جاء في الكتاب العزيز: " ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخواناً على سررٍ متقابلين، لا يمسُّهم فيها نصبٌ وما هم منها بمخرجين " فصدر أحمد بن يحيى هنالك قد غسل من الحقد على محمد بن يزيد، فصارا يتصافيان ويتوافيان، كأنهّا ندمانا جذيمة: مالكٌ وعقيل، جمعها مبيتٌ ومقيل وأبو بشر، عمرو بن عثمان سيبويه، قد رحضت سويداء قلبه من الضغن على علي بن حمزة الكسائي وأصحابه، لما فعلوا به في مجلس البرامكة. وأبو عبيدة صافي الطويّة لعبد الملك بن قريب، قد ارتفعت خلتَّهما عن الرَّيب، فهما كأربد ولبيد أخوان، أو ابني نويرة فيما سبق من الأوان، أو صخرٍ ومعاوية: ولدي عمرو، وقد أخمدا من الإحن كلّ جمر. والملائكة يدخلون عليهم من كل بابٍ، سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار. وهو أيَّد الله العلم بحياته، معهم كما قال البكريُّ:
نازعتهم قضب الرّيحان مرتفقاً، وقهوةً مزَّةً، راووقها خضل
لا يستفيقون منها وهي راهنةٌ إلا بهات، وإن علُّوا وإن نهلوا
يسعى بها ذو زجاجات له نطفٌ مقلَّص أسفل السّربال، معتمل
ومستجيبٌ لصوت الصَّنج يسمعه إذا ترجع فيه القنية الفضل
وأبو عبيدة يذاكرهم بوقائع العرب ومقاتل الفرسان، والأصمعيُّ ينشدهم من الشعر ما أحسن قائله كلَّ الإحسان. وتهشّ نفوسهم للَّعب فيقذفون تلك الآنية في أنهار الرّحيق، ويصفقّها الماذي المعترض أي تصفيق، وتقترع تلك الآنية، فيسمع لها أصواتٌ، تبعث بمثلها الأموات. فيقول الشيخ، حسّن الله الأيّام بطول عمره: آه لمصرع الأعشى ميمون وكم أعمل من مطيَّةٍ أمون!!ولقد وددت أنَّه ما صدّته قريشٌ لمَّا نوجَّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنَّما ذكرته الساعة لمّا تقارعت هذه الآنية بقوله في الحائيّة:
وشمول تحسب العين، إذا صفّقت، جندعها نور الذُّبح
مثل ريح المسك ذاكٍ ريحها، صبّها الساقي إذا قيل: توح
من زقاق التَّجر، في باطيةٍ جونةٍ، حاريّةٍ ذات روح
ذات غورٍ، ما تبالي يومها، غرف الإبريق منها والقدح
وإذا ما الرَّاح فيها أزبدت أفل الإزباد عنها، فمصح
وإذا مكوكها صادمه جانباها، كرَّ فيها فسبح
فترامت بزجاجٍ معملٍ يخلف النَّازح منها ما نزح
وإذا غاضت رفعنا زقّنا طلق الأوداج فيها فانسفح
ولو أنَّه أسلم، لجاز أن يكون بيننا في هذا المجلس، فينشدنا غريب الأوزان، ممّا نظم في دار الأحزان، ويحدّثنا حديثه مع هوذة بني عليّ، وعامر بن الطُّفيل، ويزيد بن مسهر وعلقمة بن علائة، وسلامة بن ذي فائش، وغيرهم ممّن مدحه أو هجاه، وخافه في الزمن أو رجاه.
ثمّ إنّه، أدام الله تمكينه، يخطر له حديث شيءٍ كان يسمَّى النُّزهة في الدار الفانية، فيركب نجيباً من نجب الجنّة خلق من ياقوتٍ ودرٍّ، في سجسجٍ بعد عن الحرّ والقرّ، ومعه إناء فيهج، فيسير في الجنَّة على غير منهج، ومعه شيءٌ من طعام الخلود، ذخر لوالد سعد أو مولودٍ، فإذا رأى نجيبه يملع بين كثبان العنبر، وضيمرانٍ وصل بصعبرٍ، رفع صوته متمثَّلاً بقول البكريّ:
ليت شعري متى تخبُّ بنا النَّا قة نحو العذيب فالصّيبون
محقباً زكرةً، وخبز رقاقٍ، وحباقاً، وقطعةً من نون
يعني بالحباق جرزة البقل. فيهتف هاتفٌ: أتشعر أيّها العبد المغفور له لمن هذا الشَّعر؟ فيقول الشيخ: نعم، حدّثنا أهل ثقتنا، عن أهل ثقتهم، يتوارثون ذلك كابراً عن كابر، حتى يصلوه بأبي عمرو بن العلاء، فيرويه لهم عن أشياخ العرب، حرشة الضَّباب في البلاد الكلدات وجناة الكمأة في مغاني البداة، الذين لم يأكلوا شيراز الألبان ولم يجعلوا الثمر في الثَّبان، أنَّ هذا الشّعر لميمون بن قيس ابن جندلٍ أخي بني ربيعة بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة ابن صعب بن عليّ بن بكر بن وائلٍ فيقول الهاتف: أنا ذلك الرَّجل، من الله عليَّ بعدما صرت من جهنّم على شفير، ويئست من المغفرة والتّكفير. فيلتفت إليه الشيخ هشّاً بشّاً مرتاحاً، فإذا هو بشابّ غرانق غبر في النّعيم المفانق، وقد صار عشاه حور معروفاً، وانحناء ظهره قواماً موصوفاً، فيقول: أخبرني كيف كان خلاصك من النار، وسلامتك من قبيح الشنار؟ فيقول: سحبتني الزبانية إلى سقر، فرأيت رجلاً في عرصات القيامة يتلألأ وجهه تلألؤ القمر، والنّاس يهتفون به من كلّ أوبٍ: يا محمَّد يا محمّد، الشفاعة الشّفاعة! نمتُّ لكذا ونمتُّ بكذا. فصرخت في أيدي الزبانية: يا محمّد أغثني فإنّ لي بك حرمةً! فقال: يا عليُّ بادره فانظر ما حرمته؟ فجاءني عليُّ بن أبي طالبٍ، صلوات الله عليه، وأنا أعتل كي ألقى في الدّرك الأسفل من النّار، فزجرهم عني، وقال: ما حرمتك؟ فقلت: أنا القائل:
ألا أيُّهذا السّائلي أين يمّمت، فإنَّ لها في أهل يثرب موعدا
فآليت لا أرثي لها من كلالة، ولا من حفىً، حتى تلاقي محمّدا
متى ما تناخي عند باب ابن هاشمٍ تراحي، وتلقي من فواضله ندى
أجدَّك لم تسمع وصاة محمّدٍ نبيّ الإله حين أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التُّقى وأبصرت بعد الموت من قد تزودَّا
ندمت على أن لا تكون كمثله، وأنّك لم ترصد لما كان أرصدا
فإيّاك والميتات لا تقربنّها! ولا تأخذن سهماً حديداً لتفصدا
ولا تقربنَّ جارةً إن سرَّها عليك حرامٌ، فانكحن أو تأبّدا
نبيٌّ يرى مالا يرون، وذكره أغار لعمري في البلاد وأنجدا
وهو، أكمل الله زينة المحافل بحضوره، يعرف الأقوال في هذا البيت، وإنّما أذكرها لأنّه قد يجوز أن يقرأ هذا الهذيان ناشىءٌ لم يبلغه: حكى الفرّاء وحده أغار في معنى غار، إذا أتى الغور، وإذا صحّ هذا البيت للأعشى فلم يرد بالإغارة إلا ضدَّ الإنجاد. وروي عن الأصمعيّ روايتان: إحداهما أنَّ أغار في معنى عدا عدواً شديداً، وأنشد في كتاب الأجناس:
فعدّ طلابها وتسلَّ عنه بناجيةٍ إذا زجرت تغير
والأخرى أنّه كان يقدّم ويؤخَّر فيقول: لعمري غار في البلاد وأنجدا فيجيء به على الزّحاف. وكان سعيد بن مسعدة يقول: غار لعمري في البلاد وأنجدا فيخرمه في النصف الثاني.
[عدل]إيمان الأعشى
ويقول الأعشى: قلت لعلّيٍ: وقد كنت أومن بالله وبالحساب وأصدّق بالبعث وأنا في الجاهليّة الجهلاء، فمن ذلك قولي:
فما أيبلي على هيكلٍ، بناه وصلَّب فيه وصارا
يراوح من صلوات المليك طوراً سجوداً وطوراً جؤارا
بأعظم منك تقىً في الحساب إذا النَّسمات نفضن الغبارا
فذهب عليَّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذا أعشى قيس قد روي مدحه فيك، وشهد أنّك نبيٌّ مرسلٌ. فقال: هلاَّ جاءني في الدّار السَّابقة؟ قال: عليُّ: قد جاء، ولكن صدَّته قريشٌ وحبُّه للخمر. فشفع لي، فأدخلت الجنّة على أن لا أشرب فيها خمراً؛ فقرَّت عيناي بذلك، وإنَّ لي منادح في العسل وماء الحيوان. وكذلك من لم يتب من الخمر في الدار الساخرة، لم يسقها في الآخرة. وينظر الشيخ في رياض الجنَّة فيرى قصرين منيفين، فيقول في نفسه: لأبلغنَّ هذين القصرين فأسأل لمن هما؟ فإذا قرب إليهما رأى على أحدهما مكتوباً: هذا القصرلزهير بن أبي سلمى المزني وعلى الآخر: هذا القصر لعبيد بن الأبرص الأسديّ فيعجب من ذلك ويقول: هذان ماتا في الجاهليّة، ولكّن رحمة ربنّا وسعت كلَّ شيء؛ وسوف ألتمس لقاء هذين الرّجلين فأسألهما بم غفر لهما. فيبتدىء بزهير فيجده شابّاً كالزَّهرة الجنيَّة، قد وهب له قصرٌ من ونيَّة، كأنّه ما لبس جلباب هرمٍ، ولا تأفَّف من البرم. وكأنَّه لم يقل في الميمّية:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً، لا أبا لك، يسأم!
ولم يقل في الأخرى:
ألم ترني عمَّرت تسعين حجّةً، وعشراً تباعاً عشتها، وثمانيا؟
فيقول: جير جير! أنت أبو كعب وبجير؟ فيقول: نعم. فيقول، أدام الله عزّه: بم غفر لك وقد كنت في زمان الفترة والنَّاس هملٌ، لا يحسن منهم العمل؟ فيقول: كانت نفسي من الباطل نفوراً، فصادفت ملكاً غفوراً، وكنت مؤمناً بالله العظيم، ورأيت فيما يرى النَّائم حبلاً نزل من السَّماء، فمن تعلق به من سكَّان الأرض سلم، فعلمت أنَّه أمرٌ من أمر الله، فأوصيت بنيَّ وقلت لهم عند الموت: إن قام قائمٌ يدعوكم إلى عبادة الله فأطيعوه. ولو أدركت محمّداً لكنت أوَّل المؤمنين. وقلت في الميميّة، والجاهليّة على السّكنة والسّفه ضاربٌ بالجران:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ليخفى، ومهما يكتم الله يعلم
يؤخّر، فيوضع في كتابٍ، فيدَّخر ليوم الحساب، أو يعجَّل فينقم
فيقول: ألست القائل:
وقد أغدو على ثبةٍ كرامٍ نشاوى واجدين لما نشاء
يجرُّون البرود وقد تمشَّت حميّا الكأس فيهم والغناء
فأطلقت لك الخمر كغيرك من أصحاب الخلود؟ أم حرَّمت عليك مثلما حرّمت على أعشى قيس فيقول زهيرٌ: إن أخا بكرٍ أدرك محمّداً فوجبت عليه الحجَّة، لأنّه بعث بتحريم الخمر، وحظر ما قبح من أمر؛ وهلكت أنا والخمر كغيرها من الأشياء، يشربها أتباع الأنبياء، فلا حجّة عليَّ. فيدعوه الشَّيخ إلى المنادمة؛ فيجد من ظراف النَّدماء، فيسأله عن أخبار القدماء. ومع المنصف باطيةٌ من الزُّمرُّد، فيها من الرَّحيق المختوم شيءٌ يمزج بزنجبيل، والماء أخذ من سلسبيل. فيقون، زاد الله في أنفاسه: أين هذه الباطية من التي ذكرها السّرويُّ في قوله:
ولنا باطيةٌ مملوءةٌ جونةٌ، يتبعها برذينها
فإذا ما حاردت أو بكأت فتَّ عن خاتم أخرى طينها
ثم ينصرف إلى عبيد فإذا هو قد أعطي بقاء التأبيد، فيقول: السلام عليك يا أخا بني أسدٍ. فيقول:وعليك السلام، وأهل الجنّة أذكياء، لا يخالطهم الأغبياء، لعلَّك تريد أن تسألني بم غفر لي؟ فيقول: أجل، وإنّ في ذلك لعجباً! أألفيت حكماً للمغفرة موجباً، ولم يكن عن الرَّحمة محجَّباً؟ فيقول عبيدٌ: أخبرك أنّي دخلت الهاوية، وكنت قلت في أيّام الحياة:
من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب
وسارهذا البيت في آفاق البلاد، فلم يزل ينشد ويخفُّ عني العذاب حتى أطلقت من القيود والأصفاد، ثم كرِّر إلى أن شملتني الرحمة ببركة ذلك البيت، وإنَّ ربّنا لغفور رحيم. فإذا سمع الشَّيخ، ثبّت الله وطأته، ما قال ذانك الرّجلان، طمع في سلامة كثير من أصناف الشعراء. فيقول لعبيدٍ: ألك علم بعديِّ بن زيدٍ العباديّ؟ فيقول: هذا منزله قريباً منك. فيقف عليه فيقول: كيف كانت سلامتك على الصَّراط ومخلصك من بعد الإفراط؟ فيقول: إنِّي كنت على دين المسيح ومن كان من أتباع الأنبياء قبل أن يبعث محمد فلا بأس عليه، وإنّما التّبعة على من سجد للأصنام، وعدّ في الجهلة من الأنام. فيقول الشيخ: يا أبا سوادة، ألا تنشدني الصاديَّة، فإنها بديعة من أشعار العرب؟ فينبعث منشداً:
بلغ خليلي عبد هند فلا زلت قريباً من سواد الخصوص
موازي القرّة، أو دونها، غير بعيدٍ من غمير الُّلصوص
تجنى لك الكمأة ربعَّية، بالخبِّ تندى في أصُّول القصيص
تقنصك الخيل، وتصطادك ال طّير، ولا تنكع لهو القنيص
تأكل ما شئت، وتعتلُّها حمراء ملحص كلون الفصوص
غيبت عنّي عبد في ساعة ال شَّر وجنِّبت أوان العويص
لا تنسين ذكري على لذّة ال الكأس وطوفٍ بالخذوف النَّحوص
إنَّك ذو عهد وذو مصدقٍ مخالفاً هدي الكذوب اللَّموص
يا عبد هل تذكرني ساعةً في موكب، أو رائداً للقنيص
يوماً مع الرّكب، إذا أوفضوا نرفع فيهم من نجاء القلوص
قد يدرك المبطيء من حظّه، والخير قد يسبق جهد الحريص
فلا يزل صدرك في ريبةٍ، يذكر مني تلفي أو خلوص
يا نفس أبقي، واتَّقي شتم ذي ال أعراض، إنَّ الحلم ما إن ينوص
يا ليت شعري وإن ذو عجةٍ متى أرى شرباً حوالي أصيص
بيت جلوفٍ، باردٍ ظلُّه، فيه ظباء، ودواخيل خوص
والرَّبرب، المكفوف أردانه يمشي رويداً، كتوقيِّ الرَّهيص
ينفخ من أردانه المسك، وال عنبر، والغلوى، ولبني قفوص
والمشرف المشمول نسقي به، أخضر، مطموثاً بماء الخريص
ذلك خير من فيوجٍ على ال باب، وقيدين، وغلّ قروص
أو مرتقى نيقٍ على نقنقٍ، أدبر، عودٍ ذي إكافٍ قموص
لا يثمن البيع، ولا يحمل ال رَّدف، ولا يعطى به قلب خوص
أو من نسورٍ حول موتى معاً، يأكلن لحماً من طريّ الفريص
فيقول الشيخ: أحسنت والله أحسنت، لو كنت الماء الراكد لما أسنت. وقد عمل أديب من أدباء الإسلام قصيدة على هذا الوزن، وهو المعروف بأبي بكر بن دريدٍ، قال:
يسعد ذو الجدِّ ويشقي الحريص، ليس لخلقٍ عن قضاء محيص
ويقول فيها:
أين ملوك الأرض من حميرٍ أكرم من نصَّت إليهم فلوص
جيفر الوهَّاب أودى به، دهر على هدم المعالي حريص
إلاّ أنَّك يا أبا سوادة أحرزت فضيلة السَّبق. وما كنت أختار لك أن تقول:
يا ليت شعري وان ذو عجَّةٍ ......................
لأنّك لا تخلو من أحد أمرين: إمَّا أن تكون قد وصلت همزة القطع وذلك رديء، على أنّهم قد أنشدوا:
أن لن أقاتل، فألبسوني برقعاً، وفتخاتٍ في اليدين أربعا
يزيد ما فعلت من إسقاط الهمزة بعداً أنّك حذفت الألف التي بعد النون، فإذا حذفت الهمزة من أوّل الكلمة بقيت على حرفٍ واحدٍ، وذلك بها إخلال. وإمّا أن تكون حقَّقت الهمزة فجعلتها بين بين، ثم اجترأت على تصييرها ألفاً خالصةٍ، وحسك بهذا نقضاً للعادة، ومثل ذلك قول القائل:
يقولون: مهلاً ليس للشيخ عيَّلٌ فها أنا قد أعيلت وان رقوب
ولو قلت:
يا ليت شعري أنا ذو عجَّةٍ ......................
فحذفت الواو، لكان عندي أحسن وأشبه. فيقول عديُّ ابن زيد: إنّما قلت كما سمعت أهل زمني يقولون، وحدثت لكم في الإسلام أشياء ليس لنا بها علم، فيقول الشيخ: لا أراك تفهم ما أريده من الأغراض، ولقد هممت أن أسألك عن بيتك الذي استشهد به سيبويه، وهو قولك:
أرواح مودع أم بكور، أنت، فانظر لأيِّ حالٍ تصير [1]
فإنه يزعم أنَّ أنت يجوز أن يرتفع بفعلٍ مضمرٍ يفسره قولك: فانظر، وأنا استبعد هذا المذهب ولا أظنُّك أردته. فيقول عديّ بن زيدٍ: عني من هذه الأباطيل، ولكني كنت في الدار الفانية صاحب قنص، ولعلَّه قد بلغك قولي:
ولقد أغدوا بطرفٍ زانه وجه منزوفٍ وخدِّ كالمسن
ذي تليلٍ، مشنقٍ قائده، يسر في الكفِّ، نهدٍ، ذي غسن
مدمجٍ كالقدح، لا عيب به، فيرى فيه، ولا صدع أبن
رمَّه الباري، فسوّى درأه غمز كفيّه، وتخليق السَّفن
أيُّ ثغرٍ ما يخف يندب له، ومتى يخل من القود يصن
كربيب البيت يفري جلّه، طاعة العضِّ، وتسحير اللَّبن
فبلغنا صنعه حتى شتا، ناعم البال لجوجاً في السنن
فإذا جال حمار موحش، ونعام نافر بعد عنن
شاءنا ذو ميعةٍ يبطرنا خمر الأرض وتقديم الجنن
يدأب الشدَّ بسحٍّ مرسلٍ كاحتفال الغيث بالمرِّ اليفن
أنسل الذِّرعان غرب خذم وعلا الرَّبرب أزم لم يدن
فالذي يمسكه بحمده يحمده، تثق كالسيِّد، ممتدُّ الرَّسن
وإذا نحن لدينا أربع يهتدي السائل عنّا بالدَّخن
وقولي في القافية:
ومجودٍ قد أسجهرَّ تناوي كلون العهون في الأعلاق
عن خريف سقاه نوء من الدَّل و تدلَّى، ولم توار العراقي
لم يعبه إلا الأداحيُّ فقد وب ر بعض الرِّئال في الأفلاق
وإران الثِّيران حول نعاجٍ مطفلاتٍ، يحمين بالأوراق
وتراهن كالأعزَّة في المح فل، أو حين نعمةٍ وارتفاق
قد تبطَّنته بكفّيَّ خرَّا ج من الخيل، فاضل في السَّباق
يسر في القياد نهد، ذقيف ال عدو، عبل الشّوى أمين العراق
لم يقيَّل حرَّ المقيظ، ولم يل جم لطوفٍ، ولا فساد نزاق
غير تيسيره لرغباء إن كا نت، وحربٍ إن قلَّصت عن ساق
وله النَّعجة المريُّ تجاه ال رَّكب، عدلاً بالنَّابىء المخراق
والخدبُّ العاري الزَّوائد ملحفا ن، داني الدِّماغ للآماق
فهل لك أن نركب فرسين من خيل الجنَّة فنبعثهما على صيرانها، وخيطان نعامها، وأسراب ظبائها، وعانات حمرها، فإن للقنيص لذّة قد تنغصت لك بها؟ فيقول الشيخ: إنّما أنا صاحب قلم وسلمٍ، ولم أكن صاحب خيل، ولا ممَّن يسحب طويل الَّليل، وزرتك إلى منزلك مهنئاً بسلامتك من الجحيم، وتنعمُّمك بعفو الرحيم. وما يؤمنني إذا ركبت طرفاً زعلاً رتع في رياض الجنَّة فآض من الأشر مستسعلاً، وأنا كما قال القائل:
لم يركبوا الخيل إلاّ بعدما كبروا فهم ثقال على أكنافها عنف
أن يلحقني ما لحق جلماً صاحب المتجرِّدة لمّا حمل على اليحموم، والتَّعرض لما لم تسبق بع العادة من الموم وقد بلغك ما لقي ولد رهيرٍ لمَّا وقص عن العتد ذي المير، فسلك في طريقٍ وعبٍ، وما انتفع ببكاء كعب؛ وكذلك ولدك علقمة، حلَّت في العاجلة به النقمة، لمَّا ركب للصَّيد فأصبح كجدَّه زيد، وقلت فيه:
أنعم صباحاً علقم بن عديّ أثويت اليوم لم ترحل!
وإنِّي لأحار يا معاشر العرب في هذه الأوزان التي نقلها عنكم الثّقات، وتداولتها الطبّقات؛ ومن كلمتك التي على الرَّاء، وأوّلها:
قد آن أن تصحو أو تقصر، وقد أتى لما عهدت عصر
عن مبرقات بالبرين، وتب دو بالأكف اللامعات سور
بيض عليهنَّ الدَّمقس وبال أعناق من تحت الأكفة درّ
ويجوز أن يقذفني السابح على صخور زمردٍ فيكسر لي عضداً أو ساقاً، فأصير ضحكةً في أهل الجنان. فيبتَّسم عديّ ويقول: ويحك! أما علمت أنَّ الجنة لا يرهب لديها السَّقم، تنزل بسكنها النَّقم؟ فيركبان سابحين من خيل الجنة، مركب كلِّ واحدٍ منهما لو عدل بممالك العاجلة الكائنة من أوَّلها إلى آخرها لرجح بها، وزاد في القيمة عليها. فإذا نظر إلى صوار ترتع في دقاري الفردوس، والدَّقاريُّ: الرياض، صوب مولاي الشيخ المطرد، وهو الرُّمح القصير، لأخنس ذيَّال قد رتع هناك طويل أيام وليال؛ فإذا لم يبق بين السنان وبينه إلا قيد ظفرٍ، قال: أمسك، رحمك الله، فإني لست من وحش الجنَّة التي أنشأها الله سبحانه ولم تكن في الدار الزائلة، ولكنيَّ كنت في محلة الغرور أرود في بعض القفار، فمرَّ بي ركب مؤمنون قي كري زادهم، فصرعوني واستعانوا بي على السَّفر، فعوضني الله، جلَّت كلمته، بأن أسكنني في الخلود. فيكفُّ عنه مولاي الشيخ الجليل.
ويعمد لعلجٍ وحشيٍّ، ما التلف عنده بمخشيّ، فإذا صار الخرص منه بقدر أنملة قال: أمسك يا عبد الله، فإن الله أنعم عليَّ ورفع عني البؤس، وذلك أنّي صادني صائد بمخلب، وكان إهابي له كالسلب، فباعه في بعض الأمصار، وصراه للسَّانية صارٍ، فاتُّخذ منه غربٌ، شفي بمائة الكرب، وتطَّهر بنزيعه الصَّالحون، فشملتني بركةٌ من أولئك، فدخلت الجنَّة أرزق فيها بغير حساب. فيقول الشيخ:ى فينبغي أن تتميزَّن، فما كان منكنَّ دخل الفانية فما يجب أن يختلط بوحوش الجنَّة. فيقول ذلك الوحشيُّ: لقد نصحتنا نصح الشقيق، وسوف نمتثل ما أمرت. وينصرف مولاي الشيخ الجليل وصاحبه عديّ فإذا هما برجلٍ يحتلب ناقةً في إناءٌ من ذهب، فيقولان: من الرَّجل؟ فيقول: أبو ذؤيب الهذليُّ. فيقولان: حييَّت وسعدت، لا شقيت في عيشك ولا بعدت، أتحتلب مع أنهار لبن؟ كأنَّ ذلك من الغبن. فيقول: لا بأس! إنما خطر لي ذلك مثلما خطر لكما القنيص، وإني ذكرت قولي في الدّهر الأول:
وإنَّ حديثاً منك، لو تعلمينه، جنى النّحل في ألبان عوذٍ مطافل
مطافيل أبكارٍ، حديث نتاجها تشاب بماٍ مثل ماء المفاصل
فقيَّض الله بقدرته لي هذه النّاقة عائذاً مطفلاً. وكان بالنَّعم متكفّلاً، فقمت أحتلب على العادة، وأريد أن أشوب ذلك بضّرب نحلٍ، تبعن في الجنّة طريقة الفحل. فإذا امتلأ إناؤه من الرَّسل، كوّن الباري، جلَّت عظمته، خليّةً من الجوهر، رتع ثولها في الزَّهر، فاجتنى ذلك أبو ذؤيب، ومزج حليبه بلا ريب، فيقولك ألا تشربان؟ فيجرعان من ذلك المحلب جرعاً لو فرَّقت على أهل سقر لفازوا بالخلد شرعاً. فيقول عديُّ: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. لقد جاءت رسل ربنا بالحقَّ. ونودوا أن تلكم الجنّة، أورثتموها بما كنتم تعملون. ويقول، أدام تمكينه، لعديّ: جئت بشيئين في شعرك، وددت أنَّك لم تأت بهما، أحدهما قولك:
فصاف، يفرّي جلَّه عن سراته يبذُّ الرّهان فارهاً متشابعاً
والآخر قولك:
فليت دفعت الهمَّ عنّي ساعة فنمسي على ما خيَّلت ناعمي بال
فيقول عديُّ بعباديته: يا مكبور، لقد رزقت ما يكب أن أن يشغلك عن القريض، إنما ينبغي أن تكون كما قيل لك: " كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون " قوله يامكبور، يريد: يامجبور، فجعل الجيم كافاً، وهي لغةٌ رديئةٌ يستعملها أهل اليمن. وجاء في بعض الأحاديث: أن الحارث بن هانىء بن أبي شمر بن جبلة الكندي، استلحم يوم ساباط فنادى: يا حكر يا حكر، يريد: يا حجر بن عديَّ الأدبر. فعطف عليه فاستنفذه. ويكب: في معنى يجب. فيقول، زاد الله في أنفاسه: إنَّي سألت ربَّي عزَّ سلطانه، ألاّ يحرمني في الجنّة تلذُّذاً بأدبي الذي كنت أتلذّذ به في عاجلتي، فأجابني إلى ذلك، وله الحمد في السّموات والأرض وعشيًّا وحين تظهرون.
[عدل]النابغتان
ويمضي في نزهته تلك بشابيَّن يتحادثان، كلُّ واحدٍ منهما على باب قصرٍ من درٍّ؛ قد أعفي من البؤّس والضُّرّ. فيسلّم عليهما ويقول: من أنتما رحمكما الله، وقد فعل؟ فيقولان: نحن النابغتان، نابغة بني جعدة ونابغة بني ذبيان. فيقول، ثبَّت الله وطأته: أمّا نابغة جعدة فقد أستوجب ما هو فيه بالحنيفيَّة، وأمّا أنت يا أبا أمامة فما أدري ما هيّانك؟ أي ما جهتك، فيقول الذُّبيانيُّ: إني كنت مقرّاً بالله، وحججت البيت في الجاهليَّة، ألم تسمع قولي:
فلا لعمر الذي قد زرته حججاً، وما هريق على الأنصاب من جسد
والمؤمن العائذات الطير تمسحها ركبان مكَّة بين الغيل والسَّند
وقولي:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً، وهل يأثمن ذو إمَّةٍ وهو طائع
بمصطحباتٍ من لصافٍ وثبرةٍ، يردن ألالاً، سيرهنّ تدافع
ولم أدرك النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فتقوم الحجّة عليَّ بخلافه. وإنَّ الله تقدَّست أسماؤه، عزَّ ملكاً وجلَّ، يغفر ما عظم بما قلَّ. فيقول، لا زال قوله عالياً: يا أبا سوادة، ويا أبا أمامة، ويا أبا ليلى، اجعلوها ساعة منادمةٍ، فإنَّ من قول شيخنا العباديّ:
أيُّها القلب تعلَّل بددن إنَّ همَّي في سماعٍ وأذن
وشرابٍ خسروانّيٍ، إذا ذاقه الشيخ تغنَّى وأرجحن
وقال:
وسماعٍ يأذن الشّيخ له وحديثٍ مثل ماذيٍّ مشار
فكيف لنا بأبي بصير؟ فلا تتُّم الكلمة إلا وأبو بصيرٍ قد خمسهم، فيسبَّحون الله ويقدّسونه ويحمدونه على أن جمع بينهم، ويتلو، جمّل الله ببقائه، هذه الآية: " وهو على جمعهم إذا يشاء قدير " . فإذا أكلوا من طيّبات الجنَّة، وشربوا من شرابها الذي خزنه الله لعباده المتّقين قال، كتَّ الله أنف مبغضه: يا أبا أمامة إنَّك لحصيف الرأي لبيبٌ، فكيف حسَّن لك لبُّك أن تقول للنُّعمان بن المنذر:
زعم الهمام بأنَّ فاها باردٌ عذبٌ. إذا ما ذقته قلت ازدد
زعم الهمام، ولم أذقه، بأنّه يشفى ببرد لثاتها العطش الصدى
ثمَّ استمرَّ بك القول، حتى أنكره عليك خاصَّةٌ وعامَّةٌ؟ فيقول النابغة بذكاءٍ وفهم: لقد ظلمني من عاب عليَّ، ولو أنصف لعلم أنَّني احترزت أشد احترازٍ. وذلك أنَّ النعمان كان مستهتراً بتلك المرأة، فأمرني أن أذكرها في شعري، فأردت ذلك في خلدي فقلت: إن وصفتها وصفاً مطلقاً، جاز أن يكون بغيرها معلَّقاً. وخشيت أن أذكر اسمها في النَّظم، فلا يكون ذلك موافقاً للملك، لأنَّ الملوك يأنفون من تسمية نسائهم، فرأيت أن أسند الصَّفة إليه فأقول: زعم الهمام، إذ كنت لو تركت ذكره لظنَّ السَّامع أن صفتي على المشاهدة، والأبيات التي جاءت بعد، داخلةٌ في وصف الهمام، فمن تأمَّل المعنى وجده غير مختلٍّ. وكيف ينشدون: وإذا نظرت فرأيت أقمر مشرقاً وما بعده؟ فيقول، أرغم الله أنف شانئه: ننشد: وإذا نظرت، وإذا لمست، وإذا طعنت، وإذا نزعت، على الخطاب. فيقول النابغة: قد يسوغ هذا، ولكنَّ الأجود أن تجعلوه إخباراً عن المكلّم، لأنّ قولي: زعم الهمام يؤدّي معنى قولنا: قال الهمام، فهذا أسلم، إذ كان الملك إنما يحكي عن نفسه. وإذا جعلتموه على الخطاب قبح: إن نسبتموه إليَّ فهو منديةٌ، وإن نسبتموه إلى النّعمان فهو إزراءٌ وتنقُّض. فيقول: أيدَّ الله الفضل بزيادة مدتّه: الله درُّك يا كوكب بني مرّة. ولقد صحف عليك أهل العلم من الرواة، وكيف لي بأبوي عمرو: المازنيّ والشّيبانيّ، وأبي عبيدة، وعبد الملك، وغيرهم من النّقلة لأسألهم: كيف يروون، وأنت شاهدٌ، لتعلم أني غير المتحرّض ولا الولاَّغ؟ فلا يقرُّ هذا القول في حذنَّة أبي أمامة إلاّ والرواة أجمعون قد أحضرهم الله القادر، من غير مشقّةٍ نالتهم، ولا كلفةٍ في ذلك أصابتهم، فيسلّمون بلطفٍ ورفقٍ. فيقول، أعلى الله قوله: من هذه الشّخوص الفردوسيَّة؟ فيقولون: نحن الرُّواة الذين شئت إحضارهم آنفاً فيقول: لا إله إلاّ الله مكونَّاً مدوّناً، وسبحان الله باعثاً وارثاً، وتبارك الله قادراً لا غادراً!! كيف تروون أيُّها المرحومون قول النابغة في الداليَّة: وإذا نظرت، وإذا لمست، وإذا طعنت، وإذا نزعت، أبفتح التاء أم بضمّها؟ فيقولون: بفتحها. فيقول: هذا شيخنا أبو أمامة يختار الضَّمّ، ويخبر أنّه حكاه عن النَّعمان. فيقولون: هو كما جاء في الكتاب الكريم: " والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين " فيقول، ثبّت الله كلمته على التوفيق: مضى الكلام في هذا يا أبا أمامة، فأنشدنا كلمتك التي أوّلها:
ألمَّا على المطمورة المتأبّدة أقامت بها المربع المتجرّدة
مضمَّخة بالمسك مخضوبة الشَّوى بدرٍ وياقوتٍ لها متقلّدة
كأنَّ ثناياها، وما ذقت طعمها مجاجة نحلٍ في كميتٍ مبرَّده
ليقرر بها النّعمان عيناً فإنّها له نعمةٌ، في كل يومٍ مجدده
فيقول أبو أمامة: ما أذكر أنّي سلكت هذا القريَّ قطُّ. فيقول مولاي الشيخ، زيَّن الله أيّامه ببقائه: إن ذلك لعجبٌ، فمن الذي تطوَّع فنسبها إليك؟ فيقول: إنَّها لم تنسب إليَّ على سبيل التَّطوع، ولكن على معنى الغلط والتَّوهمُّ، ولعلَّها لرجل من بني ثعلبة بن سعد. فيقول نابغة بني جعدة: صحبني شابٌّ في الجاهليّة ونحن نريد الحيرة، فأنشدني هذه القصيدة لنفسه، وذكر أنَّه من ثعلبة بن عكابة، وصادف قدومه شكاةً من النُّعمان فلم يصل إليه. فيول نابغة بني ذبيان: ما أجدر ذلك أن يكون! ويقول الشيخ، كتب الله لو مثوبة المتقيّن، لنابغة بني جعدة: يا أبا ليلى ، أنشدنا كلمتك التي على الشين التي تقول فيها:
ولقد أغدو بشربٍ أنفٍ قبل أن يظهر في الأرض ربش
معنا زقٌّ إلى سهمةٍ تسق الآكال من رطبٍ وهشّ
فنزلنا بمليعٍ مقفرٍ مسَّه طل من الدَّجن ورشّ
ولدينا قينةٌ مسمعةٌ ضخمة الأرداف من غير نفش
وإذا نحن بإجل نافرٍ ونعامٍ خيطه مثل الحبش
فحملنا ماهناً ينصفنا فوق يعبوب من الخيل أجش
ثمّ قلنا: دونك الصَّيد به تدرك المحبوب منَّا وتعش
فأتانا بشبوبٍ ناشط وظليمٍ، ومعه أمُّ خشش
فاشتوينا من غريض طيّبٍ غير ممنونٍ، وأبنا بغبش
فيقول نابغة بني جعدة: ما جعلت الشّين قطُّ رويّاً، وفي هذا الشعر ألفاظٌ لم أسمع بها قطُّ: ربشٌ، وسهمة، وخششٌ. فيقول مولاي الشيخ الأديب المغرم بالعلم: يا أبا ليلى، لقد طال عهدك بألفاظ الفصحاء، وشغلك شرابٌ ما جاءتك بمثله بابل ولا أذرعات، وثنتك لحوم الطَّير الرّاتعة في رياض الجنَّة، فنسيت ما كنت عرفت، ولا ملامة إذا نسيت ذلك، " إنّ أصحاب الجنَّة اليوم في شغلٍ فاكهون، هم وأزواجهم في ظلالٍ على الأرائك متَّكئون، لهم فيها فاكهةٌ ولهم ما يدَّعون " . أما ربش، فمن قولهم: أرضٌ ربشاء إذا ظهرت فيها قطعٌ من النَّبات وكأنَّها مقلوبةٌ عن برشاء، وأمَّا السهمة فشبيهةٌ بالسُّفرة تتَّخذ من الخوص، وأمّا خشش فإنّ عمرو الشَّيبانيّ ذكر في كتاب الخاء أن الخشش ولد الظبَّية. فكيف تنشد قولك:
وليس بمعروف لنا أن نردّها صحاحاً، ولا مستنكراً أن تعقَّرا
أتقول: ولا مستنكراً، أم مستنكرٍ؟ فيقول الجعديُّ: بل مستنكراً. فيقول الشيخ: فإن أنشد منشدٌ: مستنكرٍ، ما تصنع به؟ فيقول: أزجره وأزبره، نطق بأمرٍ لا يخبره. فيقول الشيخ، طول الله له أمد البقاء: إنّا لله وإنَّا إليه راجعون، ما أرى سيبويه إلاَّ وهم في هذا البيت، لأنَّ أبا ليلى أدرك جاهليةً وإسلاماً، وغذي بالفصاحة غلاماً. وينثني إلى أعشى قيس فيقول: ... يا أبا بصيرٍ أنشدنا قولك:
أمن قتلة بالأنقا ء دارٌ غير محلولة
كأن لم تصحب الحيَّ بها بيضاء عطبوله
أناةٌ ينزل القوسيَّ منها منظرٌ هوله
وما صهباء من عانة في الذارع محموله
تولَّى كرمها أصه ب يسقيه ويغدو له
ثوت في الخرس أعواماً وجاءت، وهي مقتوله
بماء المزنة الغرّا ء راحت، وهي مشموله
بأشهى منك للظّمآ ن لو أنَّك مبذوله
فيقول أعشى قيس: ما هذه ممّا صدر عنَّي، وإنَّك منذ اليوم لمولعٌ بالمنحولات. ويمرُّ رفٌ من إوزّ الجنَّة، فلا يلبث أن ينزل على تلك الرَّوضة ويقف وقوف منتظر لأمرٍ، ومن شأن طير الجنَّة أن يتكلَّم، فيقول: ما شأنكنَّ؟ فيقلن: ألهمنا أن نسقط في هذه الرَّوضة فنغنّي لمن فيها من شربٍ. فيقول: على بركة الله القدير. فينتفضن، فيصرن جواري كواعب يرفلن في وشي الجنَّة، وبأيديهنّ المزاهر وأنواع ما يلتمس به الملاهي. فيعجب، وحقَّ له ال
وقد وصلت الرسالة التي بحرها بالحكم مسجور ومن قرأها مأجور، إذ كانت تأمر بتقبُّل الشرع، وتعيب من ترك أصلاً إلى فرع. وغرقت في أمواج بدعها الزاخرة، وعجبت من اتسِّاق عقودها الفاخرة، ومثلها شفع ونفع، وقرّب عند الله ورفع. وألفيتها مفتحةً بتمجيدٍ، صدّر عن بليغٍ مجيد، وفي قدرة ربّنا، جلَّت عظمته، أن يجعل كلّ حرف منها شبح نورٍ، لا يمتزج بمقال الزُّور؛ يستغفر لمن أنشأها إلى يوم الدين، ويذكره ذكر محبٍ خدين. ولعلّه، سبحانه، قد نصب لسطورها المنجية من اللَّهب، معاريج من الفضة أو الّذهب، تعرج بها الملائكة من الأرض الراكدة إلى السماء، وتكشف سجوف الظلماء، بدليل الآية: إليه يصعد الكلم الطَّيب والعمل الصّالح يرفعه.
[عدل]شجرة طيبة
وهذه الكلمة الطيبة كأنّها المعنيّة بقوله: ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمّة طيّبةً كشجرةً طيّبةٍ، أصلها ثابت وفرعها في السّمّاء، تؤتي أكلها كلّ حينٍ بإذن ربها. وفي تلك السطور كلم كثير، كلّه عند الباري، تقدّس، أثير. فقد غرس لمولاي الشيخ الجليل، إن شاء الله، بذلك الثناء، شجر في الجنة لذيذ اجتناءً، كلُّ شجرةٍ منه تأخذ ما بين المشرق إلى المغرب بظلٍّ غاطٍّ ليست في الأعين كذات أنواطٍ. وذات أنواطٍ، كما يعلم، شجرة كانوا يعظمونها في الجاهلية. وقد روي أن بعض الناس قال: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواطٍ، وقال بعض الشعراء:
لنا المهيمن يكفينا أعادينا كما رفضنا إليه ذات أنواط
والولدان المخلّدون في ظلال تلك الشجر قيام وقعود، وبالمغفرة نيلت السُّعود؛ يقولون، والله القادر على كلِّ شيء عزيز: نحن وهذه الشجر صلّة من الله لعليّ بن منصور، نخبأ له إلى نفخ الصُّور. وتجري في أصول ذلك الشجر، أنهار تختلج من ماء الحيوان، والكوثر يمدُّها في كلّ أوانٍ؛ من شرب منها النُّغبة فلا موت، قد أمن هنالك الفوت. وسعد من اللبن متخرِّفات، لا تغيَّر بأن تطول الأوقات. وجعافر من الرحيق المختوم، عزَّ المقتدر على كلّ محتوم. تلك الراح الدائمة، لا الذميمة ولا الذائمة، بل هي علقمة مفترياً، ولم يكن لعفوٍ مقترياً:
تشفي الصُّداع ولا يؤذيه صالبها ولا يخالط منها الرأس تدويم
ويعمد إليها المغترف بكؤوس من العسجد، وأباريق خلقت من الزبرجد، ينظر منها الناظر إلى بديّ، ما حلم به أبو الهنديّ، رحمه الله، فلقد آثر شراب الفانية، ورغب في الدّنية الدّانية. ولا ريب أنّه يروي ديوانه، وهو القائل:
سيغني أبا الهنديّ عن وطب سالمٍ أباريق لم يعلق بها وضر الزُّبد
مفدمة قزّاً كأنّ رقابها رقاب بنات الماء أفزعها الرعد
هكذا ينشد على الإقواء وبعضهم ينشد:
رقاب بنات الماء ريعت من الرعد .........................
والرواية الأولى إنشاد النحويين. وأبو الهندي إسلاميٌّ، واسمه عبد المؤمن بن عبد القدُّوس، وهذان اسمان شرعيان، وما استشهد بهذا البيت إلا وقائله عند المستشهد فصيح، فإن كان أبو الهنديّ ممن كتب وعرف حروف المعجم فقد أساء في الإقواء، وإن كان بنى الأبيات على السكون، فقد صحَّ قول سعيد بن مسعدة، في أن الطويل من الشعر له أربعة أضرب. ولو رأى تلك الأباريق أبو زبيد لعلم أنّه كالعبد الماهن أو العبيد، وأنّه ما تشبّث بخيرٍ، ورضي بقليل المير وهزىء بقوله:
وأباريق مثل أعناق طير ال ماء قد جيب فوقهن خنيف
هيهات ! هذه أباريق، تحملها أباريق، كأنّها في الحسن الأباريق. فالأولى هي الأباريق المعروفة، والثانية من قولهم: جارية إبريق، إذا كانت تبرق من حسنها: قال الشاعر:
وغيداء إبريقٍ كأن رضابها جنى النحل ممزوجاً بصهباء تاجر
والثالثة، من قولهم: سيف إبريق، مأخوذ من البريق. قال ابن أحمر:
تقلدت إبريقاً، وعلقت جعبةً لتهلك حيّاً ذا زهاءٍ وجامل
ولو نظر إليها علقمة لبرق وفرق، وظنَّ أنه قد طرق، وأين يراها المسكين علقمة، ولعله في نار لا تغير، ماؤها للشارب وغيرٌ؟ ما ابن عبدة وما فريقه؟؟؟! خسر وكسر إبريقه! أليس هو القائل:
كأن إبريقهم ظبيٌ برابيةٍ مجللٌ، بسبا الكتّان مفدوم
أبيض أبرزة للضَّحّ راقبه مقلد قضب الرَّيحان، مفغوم
نظرةٌ إلى تلك الأباريق، خيرٌ من بيت الكرمة العاجلية، ومن كل ريقٍ، ضمنته هذه الدار الخادعة، التي هي لكلَّ شممٍ جادعةٌ. ولو بصر بها عدي بن زيد، لشغل عن المدام والصَّيد، واعترف بأن أباريق مدامه، وما أدرك من شرب الحيرة وندامه، أمرٌ هينٌ، لا يعدل بنابتٍ من حمصيص، أو ما حقر من خربصيص. وكنت بمدينة السّلام، فشاهدت بعض الورّاقين يسأل عن قافية عدي ابن زيد التي أوّلها:
كر العاذلات في غلس الصُّب ح يعاتبنه أما تستفيق؟
ودعا بالصَّبوح فجراً، فجاءت قينةٌ في يمينها إبريق
وزعم الورَّاق أن ابن حاجب النعمان سأل عن هذه القصيدة وطلبت في نسخٍ من ديوان عديّ فلم توجد. ثمّ سمعت بعد ذلك رجلاً من أهل أستراباذ، يقرأ هذه القافية في ديوان العباديّ، ولم تكن في النسخة التي في دار العلم: فأمّا الأقَّيشر الأسديّ فإنه مني بقاشر، وشقي إلى يومٍ حاشر، قال ولعله سيندم، إذا تفرَّى الأدم:
أفنى تلاديّ، وما جمعت من نشبٍ قرع القوازيز أفواه الأباريق
ما هو وما شرابه؟ تقضَّت في الحانية آرابه. لو عاين تلك الأباريق لأيقن أنّه فتن بالغرور، وسرَّ بغير موجب للسّرور. وكذلك إياس بن الأرتّ، إن كان عجب لأباريق كإوزّ الطَّفّ فإن الحوادث بسطت له أقبض كفّ. فكأنه ما قال:
كأن أباريق المدامة بينهم إوزٌّ بأعلى الطَّفّ، عوج الحناجر
ورحم الله العجَّاج، فإنّه خلط في رجزه العلبط والسَّجاج، أين إبريقه الذي ذكر فقال:
قطَّف من أعنابها ما قطفَّا، فغمَّها حولين، ثمّ استودفا
صهباء، خرطوماً، عقاراً، فرقفا، فسنَّ في الإبريق منها نزفا
من رصفٍ نازع سيلاً رصفا وكم على تلك الأنهار من آنية زبرجدٍ محفور، وياقوتٍ خلق على خلق الفور، من أصفر وأحمر وأزرق، يخال إن لمس أحرق، كما قال الصنوبريُّ: تخيَّله ساطعاً وهجه، ... فتأبى الدُّنو إلى وهجه وفي تلك الأنهار أوانٍ على هيئة الطير السابحة، والغانية عن الماء السائحة، فمنها ما هو على صور ال+ي، وأخر تشاكل المكاكيّ، وعلى خلق طواويس وبطّ، فبعضٌ في الجارية وبعضٌ في الشَّطّ،
[عدل]خمر الجنة
نبع من أفواهها شرابٌ، كأنه من الرَّقَّة سرابٌ، لو جرع جرعةً منه الحكميُّ لحكم أنّه الفوز القدميُّ. وشهد له كلُّ وصَّاف الخمر، من محدثٍ في الزمن وعتيق الأمر، أنّ أصناف الأشربة المنسوبة إلى الدار الفانية، كخمر عانة وأذرعات، وهي مظنَّةٌ للنُّعّات؛ وغزّة وبيت راس والفلسطية ذوات الأحراس؛ وما جلب من بصرى في الوسوق، تبغى به المرابحة عند سوق، وما ذخره ابن بجرة ب وجّ، واعتمد به أوقات الحجّ، قبل أن تحرَّم على الناس القهوات، وتحظر لخوف الله الشهوات. قال أبو ذؤيب:
ولو أنَّ ما عند ابن بجرة عندها من الخمر، لم تبلل لهاتي بناطل
وما اعتصر بصرخد أو أرض شبام لكلّ ملكٍ غير عبام؛ وما تردَّد ذكره من كميت بابل وصريفين واتُّخذ للأشراف المنيفين؛ وما عمل من أجناس المسكرات، مفوّقاتٍ للشارب وموكّرات، كالجعة والبتع والمزر والسُّكركة ذات الوزر؛ وما ولد من النخبل، لكريمٍ يعترف أو بخيل، وما صنع في أيَّام آدم وشيثٍ إلى يوم المبعث من معجَّلٍ أو مكيث إذ كانت تلك النُّطفة ملكةً، لا تصلح أن تكون برعاياها مشتبكة.
ويعارض تلك المدامة أنهارٌ من عسلٍ مصفَّى ما كسبته النحل الغادية إلى الأنوار، ولا هو في مومٍ متوارٍ، ولكن قال له العزيز القادر: كن فكان، وبكرمه أعطي الإمكان. واهاً لذلك عسلاً لم يكن بالنار مبسلا لو جعله الشارب المحرور غذاءه طول الأبد ما قدر له عارض موم، ولا لبس ثوب المحموم؛ وذلك كلُّه بدليل قوله: مثل الجنة التي وعد المتُّقون، فيها أنهار من ماءٍ غير آسنٍ، وانهارٌ من لبنٍ لم يتغير طعمه، وأنهارٌ من خمرٍ لذّةٍ للشّاربين، وأنهارٌ من عسلٍ مصفًّى، ولهم فيها من كلّ الثّمرات، فليت شعري عن النَّمر بن تولبٍ العكليّ، هل يقدر له أن يذوق ذلك الأري، فيعلم أن شهد الفانية إذا قيس غليه وجد يشاكه الشَّري؛ وهو لمَّا وصف أمّ حصٍن وما رزقته في الدَّعة والأمن، ذكر حوّارى بسمن، وعسلٍ مصفًّى؛ فرحمه الخالق متوفّىً،فقد كان أسلم وروي حديثاً منفرداً، وحسبنا به للكلم مسردّاً. قال المسكين النمر:
ألمّ بصحبتي، وهم هجوعٌ، خيالٌ طارقٌ من أمّ حصن
لها ما تشتهي: عسلاً مصًّفى، إذا شاءت، وحوَّارى بسمن
وهو، أدام الله تمكينه، يعرف حكاية خلفٍ الأحمر مع أصحابه في هذين البيتين، ومعناها أنّه قال لهم: لو كان موضع أمّ حصن أمُّ حفص، وما كان يقول في البيت الثاني؟ فسكتوا، فقال: حوّاريّ بلمص، يعني الفالوذ ويفرّع على هذه الحكاية فيقال: لو كان مكان أمّ حصن أمُّ جزء وآخره همزةٌ،ما كان يقول في القافية الثانية؟ فإنّه يحتمل أن يقول: وحوارى بكشء،ٍ من قولهم: كشأت اللحم إذا شويته حتى ييبس، ويقال: كشأ الشواء إذا أكله. أو يقول بوزء، من قولهم: وزأت اللحم إذا شويته. ولو قال: حوَّارى بنسء، لجاز وأحسن ما يتأؤّل فيه، أن يكون من نسأ الله في أجله، أي لها خبزٌ مع طول حياة، وهذا أحسن من أن يحمل على أن النسء اللبن الكثير الماء، وقد قيل: إن النسء الخمر، وفسروا بيت عروة بن الورد على الوجهين:
سقوني النّسء ثم تكنَّفوني، عداة الله من كذبٍ وزور
ولو حمل حوّارى بنسء، على اللبن أو الخمر، لجاز،لأنّها تأكل الحوارى بذلك، أي لها الحوَّارى مع الخمر، وقد حدّث محدّثٌ أنه رأى بسيل ملك الروم وهو يغمس خبزاً في خمرٍ ويصيب منه، ولو قيل: حوَّارى بلزء، من قولهم: لزأ إذا أكل، لما بعد، وتكون الباء في بلزء بمعنى في. ولا يمكن أن يكون رويُّ هذا البيت ألفاً، لأنّها لا تكون إلاّ ساكنة، وما قبل الرويّ ها هنا ساكنٌ، فلا يجوز ذلك. فإن خرج إلى الباء: من أمّ حرب، جاز أن يقول: وحوَّارى بصرب، وهو اللبن الحامض، ويجوز بإرب، أي بعضوٍ من شواءٍ أو قديد، ويجوز بكشب وهو أكل الشواء. فإن قال: من أمّ صمت، جاز أن يقول: وحواري بكمت، يعني جمع تمرةٍ كميت، وذلك من صفات التمر، وينشد للأسود ابن يعفر:
وكنت إذا ما قرَّب الزاد مولعاً بكلّ كميتٍ جلدةٍ لم توسَّف
وقال الأخر:
ولست أبالي بعدما اكمتَّ مربدي من التمر، أن لا يمطر الأرض كوكب
ويجوز وحوَّارى بحمت، من قولهم: تمرٌ حمتٌ، أي شديد الحلاوة. فإن أخرجه إلى الثاء فقال: من أمّ شثّ، قال: وحوَّارى ببثّ، والبثُّ: تمرٌ لم يجد كنزه فهو متفرق. فإن أخرجه إلى الجيم فقال: أمّ لجّ، جاز أن يقول: وحوّارى بدجّ، والدُّجُّ: الفرُّوج، جاء به العمانيُّ في رجزه. فإن خرج إلى الحاء، فقال: من أمّ شحّ، جاز أن يقول: وحوارى بمحّ، وببحّ، وبرّح، وبجحّ، وبسحّ. فالمحُّ: محّ البيضة، وبحُّ: جمع أبحَّ، من قولهم: كسرٌ أبحُّ، أي كثير الدّسم، وقال:
وعاذلة هبَّت عليَّ تلومني، وفي كفّها كسرٌ أبحٌ رذوم
ويجوز أن يعنى بالبحّ القداح، أي هذه المرأة أهلها أيسار، كما قال السُّلميُّ:
قروا أضيافهم ربحاً ببحّ، يعيش بفضلهنَّ الحيُّ، سمر
ورحٌّ: جمع أرحَّ، وهو من صفات بقر الوحش، أي يصاد لهذه المرأة، ويقال لأظلاف البقر: رحٌّ، قال الشاعر الأعشى:
ورحٌّ بالزّماع مردَّفاتٌ، بها تنضو الوغى وبها ترود
والسحُّ: تمرٌ صغير يابس. والجحُّ: صغار البطيخ قبل أن ينضج. فإن قال: أمُّ دخّ، قال: حوَّارى بمخّ، ونحو ذلك. فإن قال: أمّ سعد، قال: حوَّارى بثعد، وهو الرُّطب الذي لان كلُّه. فإن قال: أمّ وقذ، قال:حوارى بشقذ، وهي فراخ الحجل. فإن قال: أمّ عمرو، فإنَّ أشبه ما يقول: حوّارى بتمر. فإن قال: أمّ كرز، فإن أشبه ما يقول: وحوَّارى بأرز، وفيه لغات ستّ: أرزٌ على وزن أشدّ، وأرزّ على صملّ، وأرزٌ على وزن شغل، وأرزٌ في وزن قفل، ورزّ مثل جدٍّ، ورنز، بنونٍ وهي رديئة. فإن قال: أمّ ضبس، قال: وحوّارى بدبس. والعرب تسمّي العسل دبساً. وكذلك فسروا قول أبي زبيد:
فنهزةٌ من لقوا حسبتهم أشهى إليه من بارد الدبس
حرَّك للضرورة. فإن قال: من أمّ قرشٍ، جاز أن يقول: حوَّارى بورش، والورش: ضربٌ من الجبن، ويجوز أن يكون مولَّداً، وبه سمّي ورشٌ الذي يروي عن نافع واسمه عثمان بن سعيد. والصاد قد مضت. فإن قال: أمّ غرض، جاز أن يقول: حوَّارى بفرض، والفرض: ضربٌ من التمر، قال الراجز:
إذا أكلت لبناً وفرضا ذهبت طولاً وذهبت عرضاً
وفي نصب طول وعرض اختلافٌ بين المبرّد وسيبويه. فإن قال: من أمّ حظّ، فإن الأطعمة تقلُّ فيها الظاء، كقلَّتها في غيرها، لأن الظاء قليلةٌ جدّاً، ويجوز أن يقول: حوَّارى بكظّ، أي يكظّها الشّبع، أو نحو ذلك من الأشياء التي تدخل على معنى الاحتيال. فإن قال: أمّ طلع، جاز أن يقول: حوَّارى بخلع، والخلع: هو اللحم الذي كان يطبح ويحملونه في القروف وهي أوعيةٌ من أدم، وينشد:
كلي اللحم الغريض، فإنَّ زادي لمن خلعٍ تضمنَّه القروف
فإن قال: أمّ فرع، جاز أن يقول: حوَّارى بضرع، لأن الضروع تطبخ، وربمّا تطرب إلى أكلها الملوك فإن قال: أمّ مبغ، قال: حوّارى بصبغ، والصبَّغ ما تغمس فيه اللقمة من مرقٍ أو زيت أو خلٍّ. فإن قال: أمّ نخف، قال: حوَّارى برخف، والرخف زبدٌ رقيق، والواحدة رخفة، قال الشاعر:
لنا غنمٌ يرضي النزيل حليبها، وزحفٌ يغاديه لها وذبيح
فإن قال: أمّ فرق، قال: حوّارى بعرقٍ، والعرق: عظمٌ عليه لحمٌ من شواءٍ أو قديد. فإن قال: أمّ سبك، جاز أن يقول: حوّارى بربك، أو بلبك، من قولهم: ربكت الطعام أو لبكته، إذا خلطته، وكان ذلك ممّا فيه رطوبةٌ، مثل أن يخالطه لبنٌ أو سمنٌ، أو نحو ذلك، ولا يقال: ربكت الشعير بالحنطة، إلاّ أن يستعار. فإن قال: أمّ تخل، قال: حوّارى برخل، يريد الأنثى من أولاد الضأن، وفيه أربع لغات: رَخِل ورَخْلٌ ورِخْلٌ ورِخِلٌ. فإن قال: أمّ صرم، قال: حوارى بطرم، والطرم: العسل، وقد يسمَّى السمن طرماً. وقد مضت النون في أمّ حصن. فإن قال: أم دوّ، قال: حو؟ّارى بجوّ، والحوُّ: الجدي، فيما حكى بعض أهل اللغة في قولهم: ما يعرف حوّاً من لوٍّ، أي جدياً من عناقٍ. فإن قال: أمّ كره، قال: حوّارى بوره، يريد جمع أوره، من قولهم: كبشٌ أوره، أي سمين. فإن قال: أمّ شري، قال: حوارى بأري، أي عسل. وهذا فصل يتّسع، وإنمّا عرض في قول تامٍ، كخيال طرق في المنام. ولو خالط منا من عسل الجنان، وما خلقه الله، سبحانه، في هذه الدار الخادعة، كالصاب، والمقر، والسَّلع، والجعدة، والشَّيح، والهبيد، لعاد ذلك كلُّه، وغيره من المعقبات، يعدُّ من اللذائذ المرتقيات، فآض ما كره من الصَّاب، كأنَّه المعتصر من المصاب، والمصاب: قصب السكر، وأمسى الحدج وكأنّه المتخذٌّ بالأهواز، إلاّ يكن السُّكرّ، فإنه موازٍ؛ ولصارت الراعية في الإبل، إذا وجدت الحنظلة أتحفت بها السيدة المحظلة، وهي التي تعظم عليها الغيرة، من قولهم: حظل نساءه، إذا أفرط في الغيرة عليهنَّ، قال الراجز:
ولا ترى بعلاً ولا حلائلا كه، ولا كهنَّ إلا حاظلا
وانقطعت معايش أرباب القصب في ساحل البحر، وصنع من المرّ الفالوذ المحكم بلا سحر أي بلا خدع. ولو أن الحارث بن كلدة طعم من ذلك الطّريم لعلم أن الذي وصفه يجري من هذا المنعوت، مجرى الدّفلى الشّاقة من الرّعديد، ومدوف، ما يكره من القنديد، وذكرت الحارث بقوله:
فما عسلٌ ببارد ماء مزنٍ على ظماءٍ، لشاربه يشاب
بأشهى من لقيكم إلينا،|فكيف لنا به، ومتى الإياب}}
كذلك السَّلوى التي ذكرها الهذلي هي عند عسل الجنّة كأنَّها قارٌ رمليَّ، والقار: شجرٌ مرّ ينبت بالرَّمل، قال: بشرٌ:
يرجون الصَّلاح بذات كهفٍ، وما فيها لهم سلعٌ وقار
وعنيت قول القائل:
فقاسمها بالله جهداً لأنتم ألذُّ من السَّلوى إذا ما نشورها
وإذا من الله تبارك اسمه بورود تلك النهار، صاد فيها الوارد سمك حلاوةٍ، لم ير مثله في ملاوة، لو بصر به أحمد بن الحسين لاحتقر الهدية التي أهديت إليه فقال فيها:
أقل ما في أقلّها سمكٌ، يلعب في بركةٍ من العسل
فأمَّا الأنهار الخمريّة، فتلعب أسماكٌ هي على صور السَّمك بحريَّةٌ ونهريّة، وما يسكن منه في العيون النَّبعية، ويظفر بضروب النَّبت المرّعية، إلاّ أنّه من الذَّهب والفضّة وصنوف الجواهر، المقابلة بالنُّور الباهر. فإذا مدّ المؤمن يده إلى واحدةٍ من ذلك السَّمك، شرب من فيها عذباً لو وقعت الجرعة منه في البحر الذي لا يستطيع ماءه الشارب، لحلت منه أسافل وغوارب؛ ولصار الصمَّر كأنَّه رائحة خزامى سهلٍ، طلتَّه الدَّاجنة بدهل، والدَّهل: الطائفة من اللَّيل، أو نشر مدامٍ خوَّارةٍ، سيَّارةٍ في القلل سوَّارة. وكأنّي به، أدام الله الجمّال ببقائه، إذا استحقَّ تلك الرُّتبة، ببقين التوبة، وقد اصطفى له نامى من أدباء الفردوس: كأخي ثمالة، وأخي دوسٍ، ويونس بن حبيب الضُّبيّ، وابن مسعدة المجاشعيّ، فهم كما جاء في الكتاب العزيز: " ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخواناً على سررٍ متقابلين، لا يمسُّهم فيها نصبٌ وما هم منها بمخرجين " فصدر أحمد بن يحيى هنالك قد غسل من الحقد على محمد بن يزيد، فصارا يتصافيان ويتوافيان، كأنهّا ندمانا جذيمة: مالكٌ وعقيل، جمعها مبيتٌ ومقيل وأبو بشر، عمرو بن عثمان سيبويه، قد رحضت سويداء قلبه من الضغن على علي بن حمزة الكسائي وأصحابه، لما فعلوا به في مجلس البرامكة. وأبو عبيدة صافي الطويّة لعبد الملك بن قريب، قد ارتفعت خلتَّهما عن الرَّيب، فهما كأربد ولبيد أخوان، أو ابني نويرة فيما سبق من الأوان، أو صخرٍ ومعاوية: ولدي عمرو، وقد أخمدا من الإحن كلّ جمر. والملائكة يدخلون عليهم من كل بابٍ، سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار. وهو أيَّد الله العلم بحياته، معهم كما قال البكريُّ:
نازعتهم قضب الرّيحان مرتفقاً، وقهوةً مزَّةً، راووقها خضل
لا يستفيقون منها وهي راهنةٌ إلا بهات، وإن علُّوا وإن نهلوا
يسعى بها ذو زجاجات له نطفٌ مقلَّص أسفل السّربال، معتمل
ومستجيبٌ لصوت الصَّنج يسمعه إذا ترجع فيه القنية الفضل
وأبو عبيدة يذاكرهم بوقائع العرب ومقاتل الفرسان، والأصمعيُّ ينشدهم من الشعر ما أحسن قائله كلَّ الإحسان. وتهشّ نفوسهم للَّعب فيقذفون تلك الآنية في أنهار الرّحيق، ويصفقّها الماذي المعترض أي تصفيق، وتقترع تلك الآنية، فيسمع لها أصواتٌ، تبعث بمثلها الأموات. فيقول الشيخ، حسّن الله الأيّام بطول عمره: آه لمصرع الأعشى ميمون وكم أعمل من مطيَّةٍ أمون!!ولقد وددت أنَّه ما صدّته قريشٌ لمَّا نوجَّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنَّما ذكرته الساعة لمّا تقارعت هذه الآنية بقوله في الحائيّة:
وشمول تحسب العين، إذا صفّقت، جندعها نور الذُّبح
مثل ريح المسك ذاكٍ ريحها، صبّها الساقي إذا قيل: توح
من زقاق التَّجر، في باطيةٍ جونةٍ، حاريّةٍ ذات روح
ذات غورٍ، ما تبالي يومها، غرف الإبريق منها والقدح
وإذا ما الرَّاح فيها أزبدت أفل الإزباد عنها، فمصح
وإذا مكوكها صادمه جانباها، كرَّ فيها فسبح
فترامت بزجاجٍ معملٍ يخلف النَّازح منها ما نزح
وإذا غاضت رفعنا زقّنا طلق الأوداج فيها فانسفح
ولو أنَّه أسلم، لجاز أن يكون بيننا في هذا المجلس، فينشدنا غريب الأوزان، ممّا نظم في دار الأحزان، ويحدّثنا حديثه مع هوذة بني عليّ، وعامر بن الطُّفيل، ويزيد بن مسهر وعلقمة بن علائة، وسلامة بن ذي فائش، وغيرهم ممّن مدحه أو هجاه، وخافه في الزمن أو رجاه.
ثمّ إنّه، أدام الله تمكينه، يخطر له حديث شيءٍ كان يسمَّى النُّزهة في الدار الفانية، فيركب نجيباً من نجب الجنّة خلق من ياقوتٍ ودرٍّ، في سجسجٍ بعد عن الحرّ والقرّ، ومعه إناء فيهج، فيسير في الجنَّة على غير منهج، ومعه شيءٌ من طعام الخلود، ذخر لوالد سعد أو مولودٍ، فإذا رأى نجيبه يملع بين كثبان العنبر، وضيمرانٍ وصل بصعبرٍ، رفع صوته متمثَّلاً بقول البكريّ:
ليت شعري متى تخبُّ بنا النَّا قة نحو العذيب فالصّيبون
محقباً زكرةً، وخبز رقاقٍ، وحباقاً، وقطعةً من نون
يعني بالحباق جرزة البقل. فيهتف هاتفٌ: أتشعر أيّها العبد المغفور له لمن هذا الشَّعر؟ فيقول الشيخ: نعم، حدّثنا أهل ثقتنا، عن أهل ثقتهم، يتوارثون ذلك كابراً عن كابر، حتى يصلوه بأبي عمرو بن العلاء، فيرويه لهم عن أشياخ العرب، حرشة الضَّباب في البلاد الكلدات وجناة الكمأة في مغاني البداة، الذين لم يأكلوا شيراز الألبان ولم يجعلوا الثمر في الثَّبان، أنَّ هذا الشّعر لميمون بن قيس ابن جندلٍ أخي بني ربيعة بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة ابن صعب بن عليّ بن بكر بن وائلٍ فيقول الهاتف: أنا ذلك الرَّجل، من الله عليَّ بعدما صرت من جهنّم على شفير، ويئست من المغفرة والتّكفير. فيلتفت إليه الشيخ هشّاً بشّاً مرتاحاً، فإذا هو بشابّ غرانق غبر في النّعيم المفانق، وقد صار عشاه حور معروفاً، وانحناء ظهره قواماً موصوفاً، فيقول: أخبرني كيف كان خلاصك من النار، وسلامتك من قبيح الشنار؟ فيقول: سحبتني الزبانية إلى سقر، فرأيت رجلاً في عرصات القيامة يتلألأ وجهه تلألؤ القمر، والنّاس يهتفون به من كلّ أوبٍ: يا محمَّد يا محمّد، الشفاعة الشّفاعة! نمتُّ لكذا ونمتُّ بكذا. فصرخت في أيدي الزبانية: يا محمّد أغثني فإنّ لي بك حرمةً! فقال: يا عليُّ بادره فانظر ما حرمته؟ فجاءني عليُّ بن أبي طالبٍ، صلوات الله عليه، وأنا أعتل كي ألقى في الدّرك الأسفل من النّار، فزجرهم عني، وقال: ما حرمتك؟ فقلت: أنا القائل:
ألا أيُّهذا السّائلي أين يمّمت، فإنَّ لها في أهل يثرب موعدا
فآليت لا أرثي لها من كلالة، ولا من حفىً، حتى تلاقي محمّدا
متى ما تناخي عند باب ابن هاشمٍ تراحي، وتلقي من فواضله ندى
أجدَّك لم تسمع وصاة محمّدٍ نبيّ الإله حين أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التُّقى وأبصرت بعد الموت من قد تزودَّا
ندمت على أن لا تكون كمثله، وأنّك لم ترصد لما كان أرصدا
فإيّاك والميتات لا تقربنّها! ولا تأخذن سهماً حديداً لتفصدا
ولا تقربنَّ جارةً إن سرَّها عليك حرامٌ، فانكحن أو تأبّدا
نبيٌّ يرى مالا يرون، وذكره أغار لعمري في البلاد وأنجدا
وهو، أكمل الله زينة المحافل بحضوره، يعرف الأقوال في هذا البيت، وإنّما أذكرها لأنّه قد يجوز أن يقرأ هذا الهذيان ناشىءٌ لم يبلغه: حكى الفرّاء وحده أغار في معنى غار، إذا أتى الغور، وإذا صحّ هذا البيت للأعشى فلم يرد بالإغارة إلا ضدَّ الإنجاد. وروي عن الأصمعيّ روايتان: إحداهما أنَّ أغار في معنى عدا عدواً شديداً، وأنشد في كتاب الأجناس:
فعدّ طلابها وتسلَّ عنه بناجيةٍ إذا زجرت تغير
والأخرى أنّه كان يقدّم ويؤخَّر فيقول: لعمري غار في البلاد وأنجدا فيجيء به على الزّحاف. وكان سعيد بن مسعدة يقول: غار لعمري في البلاد وأنجدا فيخرمه في النصف الثاني.
[عدل]إيمان الأعشى
ويقول الأعشى: قلت لعلّيٍ: وقد كنت أومن بالله وبالحساب وأصدّق بالبعث وأنا في الجاهليّة الجهلاء، فمن ذلك قولي:
فما أيبلي على هيكلٍ، بناه وصلَّب فيه وصارا
يراوح من صلوات المليك طوراً سجوداً وطوراً جؤارا
بأعظم منك تقىً في الحساب إذا النَّسمات نفضن الغبارا
فذهب عليَّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذا أعشى قيس قد روي مدحه فيك، وشهد أنّك نبيٌّ مرسلٌ. فقال: هلاَّ جاءني في الدّار السَّابقة؟ قال: عليُّ: قد جاء، ولكن صدَّته قريشٌ وحبُّه للخمر. فشفع لي، فأدخلت الجنّة على أن لا أشرب فيها خمراً؛ فقرَّت عيناي بذلك، وإنَّ لي منادح في العسل وماء الحيوان. وكذلك من لم يتب من الخمر في الدار الساخرة، لم يسقها في الآخرة. وينظر الشيخ في رياض الجنَّة فيرى قصرين منيفين، فيقول في نفسه: لأبلغنَّ هذين القصرين فأسأل لمن هما؟ فإذا قرب إليهما رأى على أحدهما مكتوباً: هذا القصرلزهير بن أبي سلمى المزني وعلى الآخر: هذا القصر لعبيد بن الأبرص الأسديّ فيعجب من ذلك ويقول: هذان ماتا في الجاهليّة، ولكّن رحمة ربنّا وسعت كلَّ شيء؛ وسوف ألتمس لقاء هذين الرّجلين فأسألهما بم غفر لهما. فيبتدىء بزهير فيجده شابّاً كالزَّهرة الجنيَّة، قد وهب له قصرٌ من ونيَّة، كأنّه ما لبس جلباب هرمٍ، ولا تأفَّف من البرم. وكأنَّه لم يقل في الميمّية:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً، لا أبا لك، يسأم!
ولم يقل في الأخرى:
ألم ترني عمَّرت تسعين حجّةً، وعشراً تباعاً عشتها، وثمانيا؟
فيقول: جير جير! أنت أبو كعب وبجير؟ فيقول: نعم. فيقول، أدام الله عزّه: بم غفر لك وقد كنت في زمان الفترة والنَّاس هملٌ، لا يحسن منهم العمل؟ فيقول: كانت نفسي من الباطل نفوراً، فصادفت ملكاً غفوراً، وكنت مؤمناً بالله العظيم، ورأيت فيما يرى النَّائم حبلاً نزل من السَّماء، فمن تعلق به من سكَّان الأرض سلم، فعلمت أنَّه أمرٌ من أمر الله، فأوصيت بنيَّ وقلت لهم عند الموت: إن قام قائمٌ يدعوكم إلى عبادة الله فأطيعوه. ولو أدركت محمّداً لكنت أوَّل المؤمنين. وقلت في الميميّة، والجاهليّة على السّكنة والسّفه ضاربٌ بالجران:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ليخفى، ومهما يكتم الله يعلم
يؤخّر، فيوضع في كتابٍ، فيدَّخر ليوم الحساب، أو يعجَّل فينقم
فيقول: ألست القائل:
وقد أغدو على ثبةٍ كرامٍ نشاوى واجدين لما نشاء
يجرُّون البرود وقد تمشَّت حميّا الكأس فيهم والغناء
فأطلقت لك الخمر كغيرك من أصحاب الخلود؟ أم حرَّمت عليك مثلما حرّمت على أعشى قيس فيقول زهيرٌ: إن أخا بكرٍ أدرك محمّداً فوجبت عليه الحجَّة، لأنّه بعث بتحريم الخمر، وحظر ما قبح من أمر؛ وهلكت أنا والخمر كغيرها من الأشياء، يشربها أتباع الأنبياء، فلا حجّة عليَّ. فيدعوه الشَّيخ إلى المنادمة؛ فيجد من ظراف النَّدماء، فيسأله عن أخبار القدماء. ومع المنصف باطيةٌ من الزُّمرُّد، فيها من الرَّحيق المختوم شيءٌ يمزج بزنجبيل، والماء أخذ من سلسبيل. فيقون، زاد الله في أنفاسه: أين هذه الباطية من التي ذكرها السّرويُّ في قوله:
ولنا باطيةٌ مملوءةٌ جونةٌ، يتبعها برذينها
فإذا ما حاردت أو بكأت فتَّ عن خاتم أخرى طينها
ثم ينصرف إلى عبيد فإذا هو قد أعطي بقاء التأبيد، فيقول: السلام عليك يا أخا بني أسدٍ. فيقول:وعليك السلام، وأهل الجنّة أذكياء، لا يخالطهم الأغبياء، لعلَّك تريد أن تسألني بم غفر لي؟ فيقول: أجل، وإنّ في ذلك لعجباً! أألفيت حكماً للمغفرة موجباً، ولم يكن عن الرَّحمة محجَّباً؟ فيقول عبيدٌ: أخبرك أنّي دخلت الهاوية، وكنت قلت في أيّام الحياة:
من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب
وسارهذا البيت في آفاق البلاد، فلم يزل ينشد ويخفُّ عني العذاب حتى أطلقت من القيود والأصفاد، ثم كرِّر إلى أن شملتني الرحمة ببركة ذلك البيت، وإنَّ ربّنا لغفور رحيم. فإذا سمع الشَّيخ، ثبّت الله وطأته، ما قال ذانك الرّجلان، طمع في سلامة كثير من أصناف الشعراء. فيقول لعبيدٍ: ألك علم بعديِّ بن زيدٍ العباديّ؟ فيقول: هذا منزله قريباً منك. فيقف عليه فيقول: كيف كانت سلامتك على الصَّراط ومخلصك من بعد الإفراط؟ فيقول: إنِّي كنت على دين المسيح ومن كان من أتباع الأنبياء قبل أن يبعث محمد فلا بأس عليه، وإنّما التّبعة على من سجد للأصنام، وعدّ في الجهلة من الأنام. فيقول الشيخ: يا أبا سوادة، ألا تنشدني الصاديَّة، فإنها بديعة من أشعار العرب؟ فينبعث منشداً:
بلغ خليلي عبد هند فلا زلت قريباً من سواد الخصوص
موازي القرّة، أو دونها، غير بعيدٍ من غمير الُّلصوص
تجنى لك الكمأة ربعَّية، بالخبِّ تندى في أصُّول القصيص
تقنصك الخيل، وتصطادك ال طّير، ولا تنكع لهو القنيص
تأكل ما شئت، وتعتلُّها حمراء ملحص كلون الفصوص
غيبت عنّي عبد في ساعة ال شَّر وجنِّبت أوان العويص
لا تنسين ذكري على لذّة ال الكأس وطوفٍ بالخذوف النَّحوص
إنَّك ذو عهد وذو مصدقٍ مخالفاً هدي الكذوب اللَّموص
يا عبد هل تذكرني ساعةً في موكب، أو رائداً للقنيص
يوماً مع الرّكب، إذا أوفضوا نرفع فيهم من نجاء القلوص
قد يدرك المبطيء من حظّه، والخير قد يسبق جهد الحريص
فلا يزل صدرك في ريبةٍ، يذكر مني تلفي أو خلوص
يا نفس أبقي، واتَّقي شتم ذي ال أعراض، إنَّ الحلم ما إن ينوص
يا ليت شعري وإن ذو عجةٍ متى أرى شرباً حوالي أصيص
بيت جلوفٍ، باردٍ ظلُّه، فيه ظباء، ودواخيل خوص
والرَّبرب، المكفوف أردانه يمشي رويداً، كتوقيِّ الرَّهيص
ينفخ من أردانه المسك، وال عنبر، والغلوى، ولبني قفوص
والمشرف المشمول نسقي به، أخضر، مطموثاً بماء الخريص
ذلك خير من فيوجٍ على ال باب، وقيدين، وغلّ قروص
أو مرتقى نيقٍ على نقنقٍ، أدبر، عودٍ ذي إكافٍ قموص
لا يثمن البيع، ولا يحمل ال رَّدف، ولا يعطى به قلب خوص
أو من نسورٍ حول موتى معاً، يأكلن لحماً من طريّ الفريص
فيقول الشيخ: أحسنت والله أحسنت، لو كنت الماء الراكد لما أسنت. وقد عمل أديب من أدباء الإسلام قصيدة على هذا الوزن، وهو المعروف بأبي بكر بن دريدٍ، قال:
يسعد ذو الجدِّ ويشقي الحريص، ليس لخلقٍ عن قضاء محيص
ويقول فيها:
أين ملوك الأرض من حميرٍ أكرم من نصَّت إليهم فلوص
جيفر الوهَّاب أودى به، دهر على هدم المعالي حريص
إلاّ أنَّك يا أبا سوادة أحرزت فضيلة السَّبق. وما كنت أختار لك أن تقول:
يا ليت شعري وان ذو عجَّةٍ ......................
لأنّك لا تخلو من أحد أمرين: إمَّا أن تكون قد وصلت همزة القطع وذلك رديء، على أنّهم قد أنشدوا:
أن لن أقاتل، فألبسوني برقعاً، وفتخاتٍ في اليدين أربعا
يزيد ما فعلت من إسقاط الهمزة بعداً أنّك حذفت الألف التي بعد النون، فإذا حذفت الهمزة من أوّل الكلمة بقيت على حرفٍ واحدٍ، وذلك بها إخلال. وإمّا أن تكون حقَّقت الهمزة فجعلتها بين بين، ثم اجترأت على تصييرها ألفاً خالصةٍ، وحسك بهذا نقضاً للعادة، ومثل ذلك قول القائل:
يقولون: مهلاً ليس للشيخ عيَّلٌ فها أنا قد أعيلت وان رقوب
ولو قلت:
يا ليت شعري أنا ذو عجَّةٍ ......................
فحذفت الواو، لكان عندي أحسن وأشبه. فيقول عديُّ ابن زيد: إنّما قلت كما سمعت أهل زمني يقولون، وحدثت لكم في الإسلام أشياء ليس لنا بها علم، فيقول الشيخ: لا أراك تفهم ما أريده من الأغراض، ولقد هممت أن أسألك عن بيتك الذي استشهد به سيبويه، وهو قولك:
أرواح مودع أم بكور، أنت، فانظر لأيِّ حالٍ تصير [1]
فإنه يزعم أنَّ أنت يجوز أن يرتفع بفعلٍ مضمرٍ يفسره قولك: فانظر، وأنا استبعد هذا المذهب ولا أظنُّك أردته. فيقول عديّ بن زيدٍ: عني من هذه الأباطيل، ولكني كنت في الدار الفانية صاحب قنص، ولعلَّه قد بلغك قولي:
ولقد أغدوا بطرفٍ زانه وجه منزوفٍ وخدِّ كالمسن
ذي تليلٍ، مشنقٍ قائده، يسر في الكفِّ، نهدٍ، ذي غسن
مدمجٍ كالقدح، لا عيب به، فيرى فيه، ولا صدع أبن
رمَّه الباري، فسوّى درأه غمز كفيّه، وتخليق السَّفن
أيُّ ثغرٍ ما يخف يندب له، ومتى يخل من القود يصن
كربيب البيت يفري جلّه، طاعة العضِّ، وتسحير اللَّبن
فبلغنا صنعه حتى شتا، ناعم البال لجوجاً في السنن
فإذا جال حمار موحش، ونعام نافر بعد عنن
شاءنا ذو ميعةٍ يبطرنا خمر الأرض وتقديم الجنن
يدأب الشدَّ بسحٍّ مرسلٍ كاحتفال الغيث بالمرِّ اليفن
أنسل الذِّرعان غرب خذم وعلا الرَّبرب أزم لم يدن
فالذي يمسكه بحمده يحمده، تثق كالسيِّد، ممتدُّ الرَّسن
وإذا نحن لدينا أربع يهتدي السائل عنّا بالدَّخن
وقولي في القافية:
ومجودٍ قد أسجهرَّ تناوي كلون العهون في الأعلاق
عن خريف سقاه نوء من الدَّل و تدلَّى، ولم توار العراقي
لم يعبه إلا الأداحيُّ فقد وب ر بعض الرِّئال في الأفلاق
وإران الثِّيران حول نعاجٍ مطفلاتٍ، يحمين بالأوراق
وتراهن كالأعزَّة في المح فل، أو حين نعمةٍ وارتفاق
قد تبطَّنته بكفّيَّ خرَّا ج من الخيل، فاضل في السَّباق
يسر في القياد نهد، ذقيف ال عدو، عبل الشّوى أمين العراق
لم يقيَّل حرَّ المقيظ، ولم يل جم لطوفٍ، ولا فساد نزاق
غير تيسيره لرغباء إن كا نت، وحربٍ إن قلَّصت عن ساق
وله النَّعجة المريُّ تجاه ال رَّكب، عدلاً بالنَّابىء المخراق
والخدبُّ العاري الزَّوائد ملحفا ن، داني الدِّماغ للآماق
فهل لك أن نركب فرسين من خيل الجنَّة فنبعثهما على صيرانها، وخيطان نعامها، وأسراب ظبائها، وعانات حمرها، فإن للقنيص لذّة قد تنغصت لك بها؟ فيقول الشيخ: إنّما أنا صاحب قلم وسلمٍ، ولم أكن صاحب خيل، ولا ممَّن يسحب طويل الَّليل، وزرتك إلى منزلك مهنئاً بسلامتك من الجحيم، وتنعمُّمك بعفو الرحيم. وما يؤمنني إذا ركبت طرفاً زعلاً رتع في رياض الجنَّة فآض من الأشر مستسعلاً، وأنا كما قال القائل:
لم يركبوا الخيل إلاّ بعدما كبروا فهم ثقال على أكنافها عنف
أن يلحقني ما لحق جلماً صاحب المتجرِّدة لمّا حمل على اليحموم، والتَّعرض لما لم تسبق بع العادة من الموم وقد بلغك ما لقي ولد رهيرٍ لمَّا وقص عن العتد ذي المير، فسلك في طريقٍ وعبٍ، وما انتفع ببكاء كعب؛ وكذلك ولدك علقمة، حلَّت في العاجلة به النقمة، لمَّا ركب للصَّيد فأصبح كجدَّه زيد، وقلت فيه:
أنعم صباحاً علقم بن عديّ أثويت اليوم لم ترحل!
وإنِّي لأحار يا معاشر العرب في هذه الأوزان التي نقلها عنكم الثّقات، وتداولتها الطبّقات؛ ومن كلمتك التي على الرَّاء، وأوّلها:
قد آن أن تصحو أو تقصر، وقد أتى لما عهدت عصر
عن مبرقات بالبرين، وتب دو بالأكف اللامعات سور
بيض عليهنَّ الدَّمقس وبال أعناق من تحت الأكفة درّ
ويجوز أن يقذفني السابح على صخور زمردٍ فيكسر لي عضداً أو ساقاً، فأصير ضحكةً في أهل الجنان. فيبتَّسم عديّ ويقول: ويحك! أما علمت أنَّ الجنة لا يرهب لديها السَّقم، تنزل بسكنها النَّقم؟ فيركبان سابحين من خيل الجنة، مركب كلِّ واحدٍ منهما لو عدل بممالك العاجلة الكائنة من أوَّلها إلى آخرها لرجح بها، وزاد في القيمة عليها. فإذا نظر إلى صوار ترتع في دقاري الفردوس، والدَّقاريُّ: الرياض، صوب مولاي الشيخ المطرد، وهو الرُّمح القصير، لأخنس ذيَّال قد رتع هناك طويل أيام وليال؛ فإذا لم يبق بين السنان وبينه إلا قيد ظفرٍ، قال: أمسك، رحمك الله، فإني لست من وحش الجنَّة التي أنشأها الله سبحانه ولم تكن في الدار الزائلة، ولكنيَّ كنت في محلة الغرور أرود في بعض القفار، فمرَّ بي ركب مؤمنون قي كري زادهم، فصرعوني واستعانوا بي على السَّفر، فعوضني الله، جلَّت كلمته، بأن أسكنني في الخلود. فيكفُّ عنه مولاي الشيخ الجليل.
ويعمد لعلجٍ وحشيٍّ، ما التلف عنده بمخشيّ، فإذا صار الخرص منه بقدر أنملة قال: أمسك يا عبد الله، فإن الله أنعم عليَّ ورفع عني البؤس، وذلك أنّي صادني صائد بمخلب، وكان إهابي له كالسلب، فباعه في بعض الأمصار، وصراه للسَّانية صارٍ، فاتُّخذ منه غربٌ، شفي بمائة الكرب، وتطَّهر بنزيعه الصَّالحون، فشملتني بركةٌ من أولئك، فدخلت الجنَّة أرزق فيها بغير حساب. فيقول الشيخ:ى فينبغي أن تتميزَّن، فما كان منكنَّ دخل الفانية فما يجب أن يختلط بوحوش الجنَّة. فيقول ذلك الوحشيُّ: لقد نصحتنا نصح الشقيق، وسوف نمتثل ما أمرت. وينصرف مولاي الشيخ الجليل وصاحبه عديّ فإذا هما برجلٍ يحتلب ناقةً في إناءٌ من ذهب، فيقولان: من الرَّجل؟ فيقول: أبو ذؤيب الهذليُّ. فيقولان: حييَّت وسعدت، لا شقيت في عيشك ولا بعدت، أتحتلب مع أنهار لبن؟ كأنَّ ذلك من الغبن. فيقول: لا بأس! إنما خطر لي ذلك مثلما خطر لكما القنيص، وإني ذكرت قولي في الدّهر الأول:
وإنَّ حديثاً منك، لو تعلمينه، جنى النّحل في ألبان عوذٍ مطافل
مطافيل أبكارٍ، حديث نتاجها تشاب بماٍ مثل ماء المفاصل
فقيَّض الله بقدرته لي هذه النّاقة عائذاً مطفلاً. وكان بالنَّعم متكفّلاً، فقمت أحتلب على العادة، وأريد أن أشوب ذلك بضّرب نحلٍ، تبعن في الجنّة طريقة الفحل. فإذا امتلأ إناؤه من الرَّسل، كوّن الباري، جلَّت عظمته، خليّةً من الجوهر، رتع ثولها في الزَّهر، فاجتنى ذلك أبو ذؤيب، ومزج حليبه بلا ريب، فيقولك ألا تشربان؟ فيجرعان من ذلك المحلب جرعاً لو فرَّقت على أهل سقر لفازوا بالخلد شرعاً. فيقول عديُّ: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. لقد جاءت رسل ربنا بالحقَّ. ونودوا أن تلكم الجنّة، أورثتموها بما كنتم تعملون. ويقول، أدام تمكينه، لعديّ: جئت بشيئين في شعرك، وددت أنَّك لم تأت بهما، أحدهما قولك:
فصاف، يفرّي جلَّه عن سراته يبذُّ الرّهان فارهاً متشابعاً
والآخر قولك:
فليت دفعت الهمَّ عنّي ساعة فنمسي على ما خيَّلت ناعمي بال
فيقول عديُّ بعباديته: يا مكبور، لقد رزقت ما يكب أن أن يشغلك عن القريض، إنما ينبغي أن تكون كما قيل لك: " كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون " قوله يامكبور، يريد: يامجبور، فجعل الجيم كافاً، وهي لغةٌ رديئةٌ يستعملها أهل اليمن. وجاء في بعض الأحاديث: أن الحارث بن هانىء بن أبي شمر بن جبلة الكندي، استلحم يوم ساباط فنادى: يا حكر يا حكر، يريد: يا حجر بن عديَّ الأدبر. فعطف عليه فاستنفذه. ويكب: في معنى يجب. فيقول، زاد الله في أنفاسه: إنَّي سألت ربَّي عزَّ سلطانه، ألاّ يحرمني في الجنّة تلذُّذاً بأدبي الذي كنت أتلذّذ به في عاجلتي، فأجابني إلى ذلك، وله الحمد في السّموات والأرض وعشيًّا وحين تظهرون.
[عدل]النابغتان
ويمضي في نزهته تلك بشابيَّن يتحادثان، كلُّ واحدٍ منهما على باب قصرٍ من درٍّ؛ قد أعفي من البؤّس والضُّرّ. فيسلّم عليهما ويقول: من أنتما رحمكما الله، وقد فعل؟ فيقولان: نحن النابغتان، نابغة بني جعدة ونابغة بني ذبيان. فيقول، ثبَّت الله وطأته: أمّا نابغة جعدة فقد أستوجب ما هو فيه بالحنيفيَّة، وأمّا أنت يا أبا أمامة فما أدري ما هيّانك؟ أي ما جهتك، فيقول الذُّبيانيُّ: إني كنت مقرّاً بالله، وحججت البيت في الجاهليَّة، ألم تسمع قولي:
فلا لعمر الذي قد زرته حججاً، وما هريق على الأنصاب من جسد
والمؤمن العائذات الطير تمسحها ركبان مكَّة بين الغيل والسَّند
وقولي:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً، وهل يأثمن ذو إمَّةٍ وهو طائع
بمصطحباتٍ من لصافٍ وثبرةٍ، يردن ألالاً، سيرهنّ تدافع
ولم أدرك النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فتقوم الحجّة عليَّ بخلافه. وإنَّ الله تقدَّست أسماؤه، عزَّ ملكاً وجلَّ، يغفر ما عظم بما قلَّ. فيقول، لا زال قوله عالياً: يا أبا سوادة، ويا أبا أمامة، ويا أبا ليلى، اجعلوها ساعة منادمةٍ، فإنَّ من قول شيخنا العباديّ:
أيُّها القلب تعلَّل بددن إنَّ همَّي في سماعٍ وأذن
وشرابٍ خسروانّيٍ، إذا ذاقه الشيخ تغنَّى وأرجحن
وقال:
وسماعٍ يأذن الشّيخ له وحديثٍ مثل ماذيٍّ مشار
فكيف لنا بأبي بصير؟ فلا تتُّم الكلمة إلا وأبو بصيرٍ قد خمسهم، فيسبَّحون الله ويقدّسونه ويحمدونه على أن جمع بينهم، ويتلو، جمّل الله ببقائه، هذه الآية: " وهو على جمعهم إذا يشاء قدير " . فإذا أكلوا من طيّبات الجنَّة، وشربوا من شرابها الذي خزنه الله لعباده المتّقين قال، كتَّ الله أنف مبغضه: يا أبا أمامة إنَّك لحصيف الرأي لبيبٌ، فكيف حسَّن لك لبُّك أن تقول للنُّعمان بن المنذر:
زعم الهمام بأنَّ فاها باردٌ عذبٌ. إذا ما ذقته قلت ازدد
زعم الهمام، ولم أذقه، بأنّه يشفى ببرد لثاتها العطش الصدى
ثمَّ استمرَّ بك القول، حتى أنكره عليك خاصَّةٌ وعامَّةٌ؟ فيقول النابغة بذكاءٍ وفهم: لقد ظلمني من عاب عليَّ، ولو أنصف لعلم أنَّني احترزت أشد احترازٍ. وذلك أنَّ النعمان كان مستهتراً بتلك المرأة، فأمرني أن أذكرها في شعري، فأردت ذلك في خلدي فقلت: إن وصفتها وصفاً مطلقاً، جاز أن يكون بغيرها معلَّقاً. وخشيت أن أذكر اسمها في النَّظم، فلا يكون ذلك موافقاً للملك، لأنَّ الملوك يأنفون من تسمية نسائهم، فرأيت أن أسند الصَّفة إليه فأقول: زعم الهمام، إذ كنت لو تركت ذكره لظنَّ السَّامع أن صفتي على المشاهدة، والأبيات التي جاءت بعد، داخلةٌ في وصف الهمام، فمن تأمَّل المعنى وجده غير مختلٍّ. وكيف ينشدون: وإذا نظرت فرأيت أقمر مشرقاً وما بعده؟ فيقول، أرغم الله أنف شانئه: ننشد: وإذا نظرت، وإذا لمست، وإذا طعنت، وإذا نزعت، على الخطاب. فيقول النابغة: قد يسوغ هذا، ولكنَّ الأجود أن تجعلوه إخباراً عن المكلّم، لأنّ قولي: زعم الهمام يؤدّي معنى قولنا: قال الهمام، فهذا أسلم، إذ كان الملك إنما يحكي عن نفسه. وإذا جعلتموه على الخطاب قبح: إن نسبتموه إليَّ فهو منديةٌ، وإن نسبتموه إلى النّعمان فهو إزراءٌ وتنقُّض. فيقول: أيدَّ الله الفضل بزيادة مدتّه: الله درُّك يا كوكب بني مرّة. ولقد صحف عليك أهل العلم من الرواة، وكيف لي بأبوي عمرو: المازنيّ والشّيبانيّ، وأبي عبيدة، وعبد الملك، وغيرهم من النّقلة لأسألهم: كيف يروون، وأنت شاهدٌ، لتعلم أني غير المتحرّض ولا الولاَّغ؟ فلا يقرُّ هذا القول في حذنَّة أبي أمامة إلاّ والرواة أجمعون قد أحضرهم الله القادر، من غير مشقّةٍ نالتهم، ولا كلفةٍ في ذلك أصابتهم، فيسلّمون بلطفٍ ورفقٍ. فيقول، أعلى الله قوله: من هذه الشّخوص الفردوسيَّة؟ فيقولون: نحن الرُّواة الذين شئت إحضارهم آنفاً فيقول: لا إله إلاّ الله مكونَّاً مدوّناً، وسبحان الله باعثاً وارثاً، وتبارك الله قادراً لا غادراً!! كيف تروون أيُّها المرحومون قول النابغة في الداليَّة: وإذا نظرت، وإذا لمست، وإذا طعنت، وإذا نزعت، أبفتح التاء أم بضمّها؟ فيقولون: بفتحها. فيقول: هذا شيخنا أبو أمامة يختار الضَّمّ، ويخبر أنّه حكاه عن النَّعمان. فيقولون: هو كما جاء في الكتاب الكريم: " والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين " فيقول، ثبّت الله كلمته على التوفيق: مضى الكلام في هذا يا أبا أمامة، فأنشدنا كلمتك التي أوّلها:
ألمَّا على المطمورة المتأبّدة أقامت بها المربع المتجرّدة
مضمَّخة بالمسك مخضوبة الشَّوى بدرٍ وياقوتٍ لها متقلّدة
كأنَّ ثناياها، وما ذقت طعمها مجاجة نحلٍ في كميتٍ مبرَّده
ليقرر بها النّعمان عيناً فإنّها له نعمةٌ، في كل يومٍ مجدده
فيقول أبو أمامة: ما أذكر أنّي سلكت هذا القريَّ قطُّ. فيقول مولاي الشيخ، زيَّن الله أيّامه ببقائه: إن ذلك لعجبٌ، فمن الذي تطوَّع فنسبها إليك؟ فيقول: إنَّها لم تنسب إليَّ على سبيل التَّطوع، ولكن على معنى الغلط والتَّوهمُّ، ولعلَّها لرجل من بني ثعلبة بن سعد. فيقول نابغة بني جعدة: صحبني شابٌّ في الجاهليّة ونحن نريد الحيرة، فأنشدني هذه القصيدة لنفسه، وذكر أنَّه من ثعلبة بن عكابة، وصادف قدومه شكاةً من النُّعمان فلم يصل إليه. فيول نابغة بني ذبيان: ما أجدر ذلك أن يكون! ويقول الشيخ، كتب الله لو مثوبة المتقيّن، لنابغة بني جعدة: يا أبا ليلى ، أنشدنا كلمتك التي على الشين التي تقول فيها:
ولقد أغدو بشربٍ أنفٍ قبل أن يظهر في الأرض ربش
معنا زقٌّ إلى سهمةٍ تسق الآكال من رطبٍ وهشّ
فنزلنا بمليعٍ مقفرٍ مسَّه طل من الدَّجن ورشّ
ولدينا قينةٌ مسمعةٌ ضخمة الأرداف من غير نفش
وإذا نحن بإجل نافرٍ ونعامٍ خيطه مثل الحبش
فحملنا ماهناً ينصفنا فوق يعبوب من الخيل أجش
ثمّ قلنا: دونك الصَّيد به تدرك المحبوب منَّا وتعش
فأتانا بشبوبٍ ناشط وظليمٍ، ومعه أمُّ خشش
فاشتوينا من غريض طيّبٍ غير ممنونٍ، وأبنا بغبش
فيقول نابغة بني جعدة: ما جعلت الشّين قطُّ رويّاً، وفي هذا الشعر ألفاظٌ لم أسمع بها قطُّ: ربشٌ، وسهمة، وخششٌ. فيقول مولاي الشيخ الأديب المغرم بالعلم: يا أبا ليلى، لقد طال عهدك بألفاظ الفصحاء، وشغلك شرابٌ ما جاءتك بمثله بابل ولا أذرعات، وثنتك لحوم الطَّير الرّاتعة في رياض الجنَّة، فنسيت ما كنت عرفت، ولا ملامة إذا نسيت ذلك، " إنّ أصحاب الجنَّة اليوم في شغلٍ فاكهون، هم وأزواجهم في ظلالٍ على الأرائك متَّكئون، لهم فيها فاكهةٌ ولهم ما يدَّعون " . أما ربش، فمن قولهم: أرضٌ ربشاء إذا ظهرت فيها قطعٌ من النَّبات وكأنَّها مقلوبةٌ عن برشاء، وأمَّا السهمة فشبيهةٌ بالسُّفرة تتَّخذ من الخوص، وأمّا خشش فإنّ عمرو الشَّيبانيّ ذكر في كتاب الخاء أن الخشش ولد الظبَّية. فكيف تنشد قولك:
وليس بمعروف لنا أن نردّها صحاحاً، ولا مستنكراً أن تعقَّرا
أتقول: ولا مستنكراً، أم مستنكرٍ؟ فيقول الجعديُّ: بل مستنكراً. فيقول الشيخ: فإن أنشد منشدٌ: مستنكرٍ، ما تصنع به؟ فيقول: أزجره وأزبره، نطق بأمرٍ لا يخبره. فيقول الشيخ، طول الله له أمد البقاء: إنّا لله وإنَّا إليه راجعون، ما أرى سيبويه إلاَّ وهم في هذا البيت، لأنَّ أبا ليلى أدرك جاهليةً وإسلاماً، وغذي بالفصاحة غلاماً. وينثني إلى أعشى قيس فيقول: ... يا أبا بصيرٍ أنشدنا قولك:
أمن قتلة بالأنقا ء دارٌ غير محلولة
كأن لم تصحب الحيَّ بها بيضاء عطبوله
أناةٌ ينزل القوسيَّ منها منظرٌ هوله
وما صهباء من عانة في الذارع محموله
تولَّى كرمها أصه ب يسقيه ويغدو له
ثوت في الخرس أعواماً وجاءت، وهي مقتوله
بماء المزنة الغرّا ء راحت، وهي مشموله
بأشهى منك للظّمآ ن لو أنَّك مبذوله
فيقول أعشى قيس: ما هذه ممّا صدر عنَّي، وإنَّك منذ اليوم لمولعٌ بالمنحولات. ويمرُّ رفٌ من إوزّ الجنَّة، فلا يلبث أن ينزل على تلك الرَّوضة ويقف وقوف منتظر لأمرٍ، ومن شأن طير الجنَّة أن يتكلَّم، فيقول: ما شأنكنَّ؟ فيقلن: ألهمنا أن نسقط في هذه الرَّوضة فنغنّي لمن فيها من شربٍ. فيقول: على بركة الله القدير. فينتفضن، فيصرن جواري كواعب يرفلن في وشي الجنَّة، وبأيديهنّ المزاهر وأنواع ما يلتمس به الملاهي. فيعجب، وحقَّ له ال