أبو الفداء
عضو مساهم
- البلد/ المدينة :
- لا شيء
- المُسَــاهَمَـاتْ :
- 210
- نقاط التميز :
- 257
- التَـــسْجِيلْ :
- 29/09/2012
ستموت الديمقراطية كما ماتت الإشتراكية والشيوعية، وستذهب الوطنية وأمها العلمانية كما ذهبت القومية، وسنتكلم عنها يوما ما بصيغة الماضي، لكن منظّريها ومشرّعيها -سواء من يقتنع بها ومن يتاجر بها- يصوّرون مبادئهم المنهارة على أنها أحسن ما اتبع البشر، وأنها مبادئ أزلية، وتلك عادة كل جاهلية.
يظنون اليوم أن الديمقراطية أسمى ما يمكن تحقيقه من العدل والحرية، وأنا كمسلم أؤمن بأنه لا حرية بمعناها الصحيح إلا في إطار دين الله، ولا عدل بمعناه الصحيح ولا أخوة ولا رحمة ولا سلام إلا في دين الله.
إن البشرية لم تعرف العدل في غير شرع ربها، والديمقراطية لا تستطيع أن تقدم للعالم أفضل مما قدمت، والصورة المظلمة ماثلة للعيان، حتى قال قائل من دعاة العدالة قولته الشهيرة: (لا تحلموا أبداً بعالم سعيد، فكلما مات قيصر قديم قام قيصر جديد)، ولكن أكثر الناس لا يرون، لأنهم -بكل بساطة- لا يريدون أن يروا شيئا.
فمثلا في هذا النظام كغيره من الأنظمة الجاهلية لا يملك الإنسان من الحرية فيه إلا في إطار القوانين التي وضعها الأقوياء باسم الضعفاء، ولا حرية لعضو الحزب إلا في إطار مبادئ الحزب ومواقفه، ولا حرية للحاكم أو رئيس الحزب أو النائب المنتخب إلا في إطار ما تهواه القاعدة، حتى وإن كان باطلا، ولا حرية لوسائل الإعلام إلا في إطار مصالح من يُموّلها، أما الأنظمة التي لا تسمح بتعدد الرأي والنقد فلا حرية فيها إلا في الكفر بالله.
وكادوا يحصرون الحرية في كل ما هو فساد وإفساد، بينما الحرية الحقة هي الحرية في فعل الخير والصدع بالحق، فممارسة الحرية تعني التنصل من الخضوع لرغبة المخلوق لا الخالق.
إن أكثر معاملات الناس لا توثّق في السجلات، وما دامت غير مراقبة تضيع الحقوق ويأكل القوي الضعيف، وإن التكبر والحقد والحسد لا يستطيع أي قانون أن يعاقب عليها، وإنما يعاقب على نتائجها الظاهرة، لكن مكافحة النتائج غير مجدية، فتلك الترسانة من القوانين ومبادئ التحضر والمواطنة لا تصنع النزاهة، وما دام ليس هناك خشية من الله فإن السجون تبقى مكتظة والدنيا مظلمة، فالواجب أن يكون الحاكم مثل أي فرد مراقبًا من خُلقه، ثم من القانون الذي يسيّر المجتمع إن لم يردعه خلقه.
لكن العلاقة بين الحاكم والمحكوم عندهم قائمة على النفاق وسوء الظن، فالحاكم لا يبالي بما يقال عنه وما يفعل مادام يخدم سلطته، هكذا قال لهم شيطانهم مكيافيلي، فلا يمكن أن ننتظر من الحكام خيرا ما داموا يعتنقون مبدأ أن السياسة بلا أخلاق، وبكل صراحة.
وقد آل الأمر بالدول إلى أيدي المخابرات التي تصنع النظام الحاكم والمعارضة، وإذا فسدت السياسة الظاهرة فكيف بذلك العالم السري الذي لا يحكمه قانون ظاهر ولا خلق ولا شرف؟
إن هذه الديمقراطية ما هي إلا ملهاة للشعوب تخفي مأساتها، ولذلك نرى الدول الكبرى تدعو إليها، لعلمها بأنها تشتت الشعوب وتضعفها وتدخلها في صراعات داخلية، وليس لها من حكم نفسها إلا الشعار، ولا من الحرية إلا الشكوى والصراخ والشتم والإنحلال الخلقي الذي يغرقونها فيه لامتصاص الغضب، لأن الشهوات تنسي الهموم.
فالديمقراطية تبدأ بإعطاء الحق في الإختلاف، ثم تشجع على الإختلاف وتدعو إليه، حتى تحول الناس من النقيض إلى النقيض، من الرأي الواحد المستبد إلى الفوضى والشقاق والتفتت.
والواقع يقول أن أكثر الشعوب وعيا بقضاياها لا يمكن أن تحُول بين حكامها وما يقررون لصالح القوى المتغلبة، وبكل إمكانياتهم الرهيبة يستطيعون التغلب على رغبات الشعب، وحتى تحويل اتجاهها، بل صناعتها.
لكل ذلك فإن هذه الديمقراطية هي أفيون الشعوب بحق، وهي وسيلة ذكية لحماية الديكتاتورية، حيث تفتل الشعوب بأصابعها السياط لحكامها ليجلدوا ظهرها وهي تصفق أو تشتم سواء، وكل ما فعلته الديمقراطية هو التداول على الإستبداد، بدل احتكاره مدى الحياة.
ولعل البشرية لم تصل في أي عهد من عهود الجاهلية إلى هذا الدرك من العبودية المتلبسة بالحرية، فالظلم اليوم مغلف ولا يتفطن له إلا المختصون، ولم يعد ظاهرا في أغلب الأحيان، رغم أنه يثقل كواهل الناس، فاستنزاف خيرات الشعوب اليوم وإذلالها يتم بطريقة غير مباشرة بخلاف زمن مضى، وإن كان لابد للظلم أن يظهر لأن الطغاة يغرّهم طغيانهم دوما.
وإن ظهر هذا الظلم فإن الناس لا يقدرون على التحكم في قضاياهم المصيرية وغيرها، وما داموا كذلك فإن مراقبتهم للحكام عديمة الجدوى، حتى وإن كان الناس على جانب كبير من الوعي واليقظة، فإن الأنظمة لديها هامش من المناورة ووسائل أكثر قوة وذكاء من أن يتفطن لها الناس، فضلا عن أن يقاوموها، فما عليهم إلا التسليم والسكوت.
فهم لا يستشارون في القضايا الجوهرية، إذا تعارضت مصلحتهم مع مصلحة الأقوياء، كالحروب مثلا، وتبقى المعارضة شكلية غير حقيقية مادامت تنحصر في الكلام دون التغيير الفعلي الذي يعاقب عليه القانون، وتنحصر في الإعتراض على التصرفات الفردية للحكام أو المسائل الجانبية في إطار النظام العام، ثم هي تتحد ضد كل من يهدد هذا النظام، حيث يتوصل الحكام بها إلى إبادة أية معارضة حقيقية جذرية.
إن نظامهم قائم على مبدأ الصراع الأزلي، كقانون لا كواقع فقط، صراع بين الحاكم والمحكوم، وبين الغني والفقير، وبين الرجل والمرأة، وبين الفرد والمجتمع، وكلٌّ يعمل لصالحه، ولا يؤدي حق الغير إلا مرغما، فهم لا يفهمون غير هذا، لأن النفوس التي ألفت الأدران لا تعرف للطهر معنى.
وهذا على مستوى الدول كما هو على مستوى الأفراد، فالعلاقات الدولية لا يحكمها الدين والخلق، ولذلك لا يتحقق السلام، فالمصلحة أنانية، والذين يبحثون عن السلام العالمي واهمون.
فالنظام العالمي قائم على قاعدة أن الحق يؤخذ ولا يعطى، والحق يعطى للمصلحة، فمن لا قوة له ولا منفعة ترجى منه لا حق له، وهي عادة كل جاهلية مهما وضع لها من زينة، وإذا اجتمعوا فالأمم الكبرى لها الحق المشروع في نقض قرارات كل الدول مجتمعة، ولا زالوا مع ذلك يتحدثون عن العدالة والمساواة.
إن الإعتماد على توازن القوى لتحقيق العدالة يجعلها فعلا وردَّ فعل، وبما أن القوى تتجاذب وتتصارع وتتفاوت ولا تتوازن في أكثر الأحيان فإن القانون مع الأقوى، فالضعيف لا حق له دوما، ولهذا يتنافس الناس في القوة فقط لا في الصلاح.
لابد للإنسان في هذا النظام ممن يدافع عن حقوقه المهضومة، ولا بد للمرأة من جمعيات تدافع عنها، وللمرضى كذلك، فينال صاحب الحق حقه حسب قوة حاميه وقوة تأثيره في الساحة، فهم في صراع مع الطبيعة وفق النظرة الغربية للحياة، ولذلك فلا بد للبيئة من حماة يدافعون عنها وإلا أحرقوا الأخضر واليابس وأهلكوا الحرث والنسل لملء خزائن الجشعين، وليس عليهم أي التزامات تجاهها، فلا خوف من الله يملأ قلوبهم.
ويعطون الحقوق شيئا فشيئا حسب الضغوط، وكل يوم يأتون بجديد، حتى يشعر الناس أن اليوم أفضل من الأمس، فالقوة هي التي تضع القوانين التي تمنح الحقوق مرغمة، أو لوجود مصلحة من صاحب الحق.
بينما نجد هذه الحقوق بديهية في نظام المسلمين الذي يؤديها خوفا من الله وإن لم يطالب بها أهلها، كاْهل الذمة الذين لم يكن لهم مدافع، ولم يكن يُنتظر منهم منفعة، ولم تكن تلك عادة النظام العالمي في ذلك العهد.
ومن المفاسد التي تعذب الناس مساواتهم بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات معا، بدءًا بالتساوي في تخصصات التعليم والعمل، بينما كان من الواجب أن يكون بينهما تكامل لا تساوٍ، فالحياة كلها بنيت على التكامل، فالبر والبحر والليل والنهار والشتاء والصيف ووظائف جسم الإنسان ووظائف الناس في المجتمع تسير كلها وفق نظام التكامل، فبعضها يكمّل البعض حتى تستمر الحياة.
يقول الله -عز وجل-:[ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ] [النساء: 32]، لكن كل شيء مبرمج لتخريب الأسرة وإفساد الفطرة.
إن البشرية لا تستفيد من الخيرات التي وهبها الله لها كما ينبغي، لأن أكثرها يستعمل في الحرام وفيما لا نفع فيه، وكثيرا ما تؤدي النعم إلى الفساد، فكل هذه التكنولوجيا لم تخدم الناس إلا بالفتات الذي يلهيهم، بل تسلط عليهم في الأساس، وتوجه أساسا لفائدة الأشرار المتغلبين في الأرض.
إنهم ينشرون الفواحش ويحاربون الجرائم والأمراض التي تجرها عليهم، وينشرون الخمر ويحاربون السكر، فالآفات التي يهدرون الطاقات الهائلة لمكافحتها هم الذين يصنعونها وينشرونها ويدعون إليها، ويسخّرون الطاقات الهائلة لذلك أيضا.
إنهم يحرمون المخدرات ويبيحون الخمر، ويدخلون الخمر في إطار الحرية الشخصية دون المخدرات، وإذا غلبتهم وشاعت أخذوا يبيحونها شيئا فشيئا، لاختلال قاعدة الثوابت والمتغيرات في حياتهم، فبعد أن تباح المحرمات واقعا يبيحونها شرعا، وبالتالي فإن العالم مرشح لأن يفسد أكثر فأكثر إن لم يتداركه الله برحمته.
فالأخلاق والمبادئ عندهم نسبية، ومفاهيم الشرف والفضيلة والشهامة والنفاق والرذيلة تتبدل مع مر الزمان، بينما لا بد أن يبقى الكذب كذبا والغدر غدرا والرذيلة رذيلة، ولا بد أن يبقى الرجال شرفاء غيورين على أعراضهم، وأن تبقى النساء عفيفات محافظات على أعراضهن، ولا يصح أن تختل هذه الموازين وإن تغيرت الوسائل المادية.
وأنا لا أعرف ما الذي يجعلني تقيا عندما أسكن الخيمة، ويجعلني فاجرا عندما أسكن العمارة الزجاجية، حتى وإن نازعتني نفسي إلى المعصية إذا استغنيت فهذا لا أعتبره قاعدة ومبدأ، وإنما هوى النفس هنا هو منقصة.
ولما صار الكذب عندهم عادة لم يعُد جريمة كما كان، فكل مجال من مجالات الحياة بني على الكذب، فالكذب والخداع والمكر ليست أمورا معزولة يحاربها القضاء، ولكنها من صميم العقيدة العلمانية، حتى أنه لا يمكن إيجاد ديمقراطية دون ذلك، وانظر إلى القضاء مثلا، ترى أن مهمة الإدعاء أو الدفاع لا يمكن أن تقوم إلا على الكذب، فهي دور يؤدى بغض النظر عن البراءة أو الإدانة، ووسائل الدفاع تعتمد على المال، ومن لا مال له يقنع بالمساعدة القضائية.
كل الشعوب تعلم أن حكامها يكذبون ويخادعون والحكام يعلمون ذلك، لكن لا مناص لهذه الشعوب من الإتباع، وليس هناك أي آلية لمحاسبة الحكام على تطبيق برامجهم ووعودهم، وصاروا لا يبررون كذبهم بل يفرضونه، وقد أصبحت لهم فيه خبرة حتى لا تكاد تكذّبهم من ملامحهم، فهم يرون أنهم أحرار في ذلك، وفي إخلاف الوعود ونقض العهود، فهو من سمات السياسي الناجح والتاجر الناجح، فالسياسي يقول –مبررًا-: هذه هي السياسة، والتاجر يقول: هذه هي التجارة، وقد يعامل زبونه بأمانة رياء لجذبه إليه لا لوجه الله.
ولا مكان لبر الوالدين –مثلا– عند الكبر ما دامت المنفعة المادية غير مرجُوّة منهما، وكل ما بقي عند الناس من أخلاق غير مادية إنما هي بقية من الفطرة التي لم تصلها يد العلمانية بالمسخ، وأخلاق الرسالات الإلهية.
إنهم يقتلون الضمير البشري، فهذا النظام يسير بالبشرية نحو الهاوية في غمرة البهرج المادي، فهو يترك الأخلاق هملا للأهواء والشهوات والتقلبات الإقتصادية دون إصلاح أو تهذيب، وفرقٌ بين من يرى الدنيا دار امتحان ومن ينظر إليها على أنها فرصة للمتاع يجب انتهازها دون ضابط.
كما أن مبدأ الحرية الشخصية مبدأ غامض، ودعوة إلى التسيّب واللاإنتماء واللاإلتزام، فالحرية ليست غاية، ولكنها وسيلة للسعادة، التي تتحقق بالتحرر من القيود والضغوط الفاسدة، والإنضباط والإلتزام بالمعايير والقواعد الصحيحة التي تنظم الحياة الفردية والجماعية.
ولذلك اعترف الخبراء بأنه حيث تتسع هذه الحرية على حساب تلك القواعد يكثر الإجرام، فهي تصنع جوا يقبر الفضيلة ويشجع كل رذيلة، حيث يجد أهل الشر متنفسهم، ولذلك نجد الفجرة والمجرمين يحتجون بمبادئها، والشهوات البهيمية والسبعية وغيرها مرتبطة ببعضها، وكل واحدة تقول للأخرى: خذيني معك، ثم النتيجة معروفة وملموسة.
ومن تسليمهم للشهوات إعطاء الحق لعامة الناس المصلحين والمفسدين في اختيار المشرعين والحكام حسب مصالحهم الذاتية، بل الوصول إلى الحكم ووضع الشرائع.
ولذلك كان من فلاسفة اليونان الأوائل من أنكر هذا، كسقراط الذي قُتل بسبب مناهضته للحكم الديمقراطي، إذ كان يرى أن الحكم الصحيح يجب أن يبنى على العلم الصحيح لا شهوات غالبية الناس، لأن الحق يُعرف بالدليل والإقناع لا بعدد الأصوات، عن طريق الإنتخاب والإستفتاء وسبر الآراء وغير ذلك، حتى لا يكون الأكثر صراخا هو الأولى بالحق والحكم، الأمر الذي يؤدي إلى طمس معيار العلم والحقيقة.
فالقانون يجب أن يكون تعبيرا عن الحق لا عن إرادة الناس، أو الجزء الأكبر من الناس، أو التوسط بين الأطراف والتيارات المتناقضة، إلا في المسائل المبهمة أو الإختيارية، التي لا تدخل في ميزان الخير والشر، حيث يمكن الترجيح بالكثرة جبرًا للخواطر، فينبغي على الفرد والأقلية والأكثرية أن يذعنوا للحق لا للفرد المستبد ولا للأكثرية المستبدة.
إن العلمانية تقوم على التسليم للشهوات الواقعة وتنميتها، وإن كان فيها الهلاك، فهذه الجاهلية القادمة من الغرب والتي حطت رحالها بيننا منذ زمان تقوم على إقرار الشهوات، لا كأمر واقع تتعامل معه بما يصلحه، بل هي هدف وغاية ومبدأ توضع على أساسه القواعد.
فالديمقراطية تفسح مجالا واسعا للإحتيال، وفيها ثغرات يستغلها الأقوياء ليفعلوا ما بدا لهم، وإن لم يجدوا قانونا فرضوا الأمر الواقع، من ذلك الإنتخاب إجمالا على الدساتير والبرامج دون تفصيل، فيستغل الحكام هذه الثغرة لإمرار مشاريعهم، كالتجويع مع السلام أو الحرب مع تخفيض الضرائب والبطالة.
والديمقراطية تعتبر الرياء وابتغاء المصلحة الشخصية دون غيرها أصلا، ثم هم يلمزون الدعاة إلى الإسلام بالرياء وابتغاء الدنيا! والديمقراطية تجعل طلب المناصب أصلا، وهو ما يؤدي إلى استغلالها لأغراض غير شريفة، ومعارضة الحاكم هي من أجل المعارضة فقط أنانية لا للحق، إذ يتحول الخارج من الحكم إلى معارض بالضرورة والعكس بالعكس.
ثم نجد أهلها يتهمون من يدعو لدين الله بابتغاء الحكم! فهي تجعل حرب الزعامات والمصالح قاعدة قانونية مشروعة، وقد اصطلح أهل العقول على إنكارها، إن هذه المبادئ ليست فاسدة فحسب، بل هي تشجع الفساد وتقننه.
بقلم : محمد سلامي
يظنون اليوم أن الديمقراطية أسمى ما يمكن تحقيقه من العدل والحرية، وأنا كمسلم أؤمن بأنه لا حرية بمعناها الصحيح إلا في إطار دين الله، ولا عدل بمعناه الصحيح ولا أخوة ولا رحمة ولا سلام إلا في دين الله.
إن البشرية لم تعرف العدل في غير شرع ربها، والديمقراطية لا تستطيع أن تقدم للعالم أفضل مما قدمت، والصورة المظلمة ماثلة للعيان، حتى قال قائل من دعاة العدالة قولته الشهيرة: (لا تحلموا أبداً بعالم سعيد، فكلما مات قيصر قديم قام قيصر جديد)، ولكن أكثر الناس لا يرون، لأنهم -بكل بساطة- لا يريدون أن يروا شيئا.
فمثلا في هذا النظام كغيره من الأنظمة الجاهلية لا يملك الإنسان من الحرية فيه إلا في إطار القوانين التي وضعها الأقوياء باسم الضعفاء، ولا حرية لعضو الحزب إلا في إطار مبادئ الحزب ومواقفه، ولا حرية للحاكم أو رئيس الحزب أو النائب المنتخب إلا في إطار ما تهواه القاعدة، حتى وإن كان باطلا، ولا حرية لوسائل الإعلام إلا في إطار مصالح من يُموّلها، أما الأنظمة التي لا تسمح بتعدد الرأي والنقد فلا حرية فيها إلا في الكفر بالله.
وكادوا يحصرون الحرية في كل ما هو فساد وإفساد، بينما الحرية الحقة هي الحرية في فعل الخير والصدع بالحق، فممارسة الحرية تعني التنصل من الخضوع لرغبة المخلوق لا الخالق.
إن أكثر معاملات الناس لا توثّق في السجلات، وما دامت غير مراقبة تضيع الحقوق ويأكل القوي الضعيف، وإن التكبر والحقد والحسد لا يستطيع أي قانون أن يعاقب عليها، وإنما يعاقب على نتائجها الظاهرة، لكن مكافحة النتائج غير مجدية، فتلك الترسانة من القوانين ومبادئ التحضر والمواطنة لا تصنع النزاهة، وما دام ليس هناك خشية من الله فإن السجون تبقى مكتظة والدنيا مظلمة، فالواجب أن يكون الحاكم مثل أي فرد مراقبًا من خُلقه، ثم من القانون الذي يسيّر المجتمع إن لم يردعه خلقه.
لكن العلاقة بين الحاكم والمحكوم عندهم قائمة على النفاق وسوء الظن، فالحاكم لا يبالي بما يقال عنه وما يفعل مادام يخدم سلطته، هكذا قال لهم شيطانهم مكيافيلي، فلا يمكن أن ننتظر من الحكام خيرا ما داموا يعتنقون مبدأ أن السياسة بلا أخلاق، وبكل صراحة.
وقد آل الأمر بالدول إلى أيدي المخابرات التي تصنع النظام الحاكم والمعارضة، وإذا فسدت السياسة الظاهرة فكيف بذلك العالم السري الذي لا يحكمه قانون ظاهر ولا خلق ولا شرف؟
إن هذه الديمقراطية ما هي إلا ملهاة للشعوب تخفي مأساتها، ولذلك نرى الدول الكبرى تدعو إليها، لعلمها بأنها تشتت الشعوب وتضعفها وتدخلها في صراعات داخلية، وليس لها من حكم نفسها إلا الشعار، ولا من الحرية إلا الشكوى والصراخ والشتم والإنحلال الخلقي الذي يغرقونها فيه لامتصاص الغضب، لأن الشهوات تنسي الهموم.
فالديمقراطية تبدأ بإعطاء الحق في الإختلاف، ثم تشجع على الإختلاف وتدعو إليه، حتى تحول الناس من النقيض إلى النقيض، من الرأي الواحد المستبد إلى الفوضى والشقاق والتفتت.
والواقع يقول أن أكثر الشعوب وعيا بقضاياها لا يمكن أن تحُول بين حكامها وما يقررون لصالح القوى المتغلبة، وبكل إمكانياتهم الرهيبة يستطيعون التغلب على رغبات الشعب، وحتى تحويل اتجاهها، بل صناعتها.
لكل ذلك فإن هذه الديمقراطية هي أفيون الشعوب بحق، وهي وسيلة ذكية لحماية الديكتاتورية، حيث تفتل الشعوب بأصابعها السياط لحكامها ليجلدوا ظهرها وهي تصفق أو تشتم سواء، وكل ما فعلته الديمقراطية هو التداول على الإستبداد، بدل احتكاره مدى الحياة.
ولعل البشرية لم تصل في أي عهد من عهود الجاهلية إلى هذا الدرك من العبودية المتلبسة بالحرية، فالظلم اليوم مغلف ولا يتفطن له إلا المختصون، ولم يعد ظاهرا في أغلب الأحيان، رغم أنه يثقل كواهل الناس، فاستنزاف خيرات الشعوب اليوم وإذلالها يتم بطريقة غير مباشرة بخلاف زمن مضى، وإن كان لابد للظلم أن يظهر لأن الطغاة يغرّهم طغيانهم دوما.
وإن ظهر هذا الظلم فإن الناس لا يقدرون على التحكم في قضاياهم المصيرية وغيرها، وما داموا كذلك فإن مراقبتهم للحكام عديمة الجدوى، حتى وإن كان الناس على جانب كبير من الوعي واليقظة، فإن الأنظمة لديها هامش من المناورة ووسائل أكثر قوة وذكاء من أن يتفطن لها الناس، فضلا عن أن يقاوموها، فما عليهم إلا التسليم والسكوت.
فهم لا يستشارون في القضايا الجوهرية، إذا تعارضت مصلحتهم مع مصلحة الأقوياء، كالحروب مثلا، وتبقى المعارضة شكلية غير حقيقية مادامت تنحصر في الكلام دون التغيير الفعلي الذي يعاقب عليه القانون، وتنحصر في الإعتراض على التصرفات الفردية للحكام أو المسائل الجانبية في إطار النظام العام، ثم هي تتحد ضد كل من يهدد هذا النظام، حيث يتوصل الحكام بها إلى إبادة أية معارضة حقيقية جذرية.
إن نظامهم قائم على مبدأ الصراع الأزلي، كقانون لا كواقع فقط، صراع بين الحاكم والمحكوم، وبين الغني والفقير، وبين الرجل والمرأة، وبين الفرد والمجتمع، وكلٌّ يعمل لصالحه، ولا يؤدي حق الغير إلا مرغما، فهم لا يفهمون غير هذا، لأن النفوس التي ألفت الأدران لا تعرف للطهر معنى.
وهذا على مستوى الدول كما هو على مستوى الأفراد، فالعلاقات الدولية لا يحكمها الدين والخلق، ولذلك لا يتحقق السلام، فالمصلحة أنانية، والذين يبحثون عن السلام العالمي واهمون.
فالنظام العالمي قائم على قاعدة أن الحق يؤخذ ولا يعطى، والحق يعطى للمصلحة، فمن لا قوة له ولا منفعة ترجى منه لا حق له، وهي عادة كل جاهلية مهما وضع لها من زينة، وإذا اجتمعوا فالأمم الكبرى لها الحق المشروع في نقض قرارات كل الدول مجتمعة، ولا زالوا مع ذلك يتحدثون عن العدالة والمساواة.
إن الإعتماد على توازن القوى لتحقيق العدالة يجعلها فعلا وردَّ فعل، وبما أن القوى تتجاذب وتتصارع وتتفاوت ولا تتوازن في أكثر الأحيان فإن القانون مع الأقوى، فالضعيف لا حق له دوما، ولهذا يتنافس الناس في القوة فقط لا في الصلاح.
لابد للإنسان في هذا النظام ممن يدافع عن حقوقه المهضومة، ولا بد للمرأة من جمعيات تدافع عنها، وللمرضى كذلك، فينال صاحب الحق حقه حسب قوة حاميه وقوة تأثيره في الساحة، فهم في صراع مع الطبيعة وفق النظرة الغربية للحياة، ولذلك فلا بد للبيئة من حماة يدافعون عنها وإلا أحرقوا الأخضر واليابس وأهلكوا الحرث والنسل لملء خزائن الجشعين، وليس عليهم أي التزامات تجاهها، فلا خوف من الله يملأ قلوبهم.
ويعطون الحقوق شيئا فشيئا حسب الضغوط، وكل يوم يأتون بجديد، حتى يشعر الناس أن اليوم أفضل من الأمس، فالقوة هي التي تضع القوانين التي تمنح الحقوق مرغمة، أو لوجود مصلحة من صاحب الحق.
بينما نجد هذه الحقوق بديهية في نظام المسلمين الذي يؤديها خوفا من الله وإن لم يطالب بها أهلها، كاْهل الذمة الذين لم يكن لهم مدافع، ولم يكن يُنتظر منهم منفعة، ولم تكن تلك عادة النظام العالمي في ذلك العهد.
ومن المفاسد التي تعذب الناس مساواتهم بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات معا، بدءًا بالتساوي في تخصصات التعليم والعمل، بينما كان من الواجب أن يكون بينهما تكامل لا تساوٍ، فالحياة كلها بنيت على التكامل، فالبر والبحر والليل والنهار والشتاء والصيف ووظائف جسم الإنسان ووظائف الناس في المجتمع تسير كلها وفق نظام التكامل، فبعضها يكمّل البعض حتى تستمر الحياة.
يقول الله -عز وجل-:[ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ] [النساء: 32]، لكن كل شيء مبرمج لتخريب الأسرة وإفساد الفطرة.
إن البشرية لا تستفيد من الخيرات التي وهبها الله لها كما ينبغي، لأن أكثرها يستعمل في الحرام وفيما لا نفع فيه، وكثيرا ما تؤدي النعم إلى الفساد، فكل هذه التكنولوجيا لم تخدم الناس إلا بالفتات الذي يلهيهم، بل تسلط عليهم في الأساس، وتوجه أساسا لفائدة الأشرار المتغلبين في الأرض.
إنهم ينشرون الفواحش ويحاربون الجرائم والأمراض التي تجرها عليهم، وينشرون الخمر ويحاربون السكر، فالآفات التي يهدرون الطاقات الهائلة لمكافحتها هم الذين يصنعونها وينشرونها ويدعون إليها، ويسخّرون الطاقات الهائلة لذلك أيضا.
إنهم يحرمون المخدرات ويبيحون الخمر، ويدخلون الخمر في إطار الحرية الشخصية دون المخدرات، وإذا غلبتهم وشاعت أخذوا يبيحونها شيئا فشيئا، لاختلال قاعدة الثوابت والمتغيرات في حياتهم، فبعد أن تباح المحرمات واقعا يبيحونها شرعا، وبالتالي فإن العالم مرشح لأن يفسد أكثر فأكثر إن لم يتداركه الله برحمته.
فالأخلاق والمبادئ عندهم نسبية، ومفاهيم الشرف والفضيلة والشهامة والنفاق والرذيلة تتبدل مع مر الزمان، بينما لا بد أن يبقى الكذب كذبا والغدر غدرا والرذيلة رذيلة، ولا بد أن يبقى الرجال شرفاء غيورين على أعراضهم، وأن تبقى النساء عفيفات محافظات على أعراضهن، ولا يصح أن تختل هذه الموازين وإن تغيرت الوسائل المادية.
وأنا لا أعرف ما الذي يجعلني تقيا عندما أسكن الخيمة، ويجعلني فاجرا عندما أسكن العمارة الزجاجية، حتى وإن نازعتني نفسي إلى المعصية إذا استغنيت فهذا لا أعتبره قاعدة ومبدأ، وإنما هوى النفس هنا هو منقصة.
ولما صار الكذب عندهم عادة لم يعُد جريمة كما كان، فكل مجال من مجالات الحياة بني على الكذب، فالكذب والخداع والمكر ليست أمورا معزولة يحاربها القضاء، ولكنها من صميم العقيدة العلمانية، حتى أنه لا يمكن إيجاد ديمقراطية دون ذلك، وانظر إلى القضاء مثلا، ترى أن مهمة الإدعاء أو الدفاع لا يمكن أن تقوم إلا على الكذب، فهي دور يؤدى بغض النظر عن البراءة أو الإدانة، ووسائل الدفاع تعتمد على المال، ومن لا مال له يقنع بالمساعدة القضائية.
كل الشعوب تعلم أن حكامها يكذبون ويخادعون والحكام يعلمون ذلك، لكن لا مناص لهذه الشعوب من الإتباع، وليس هناك أي آلية لمحاسبة الحكام على تطبيق برامجهم ووعودهم، وصاروا لا يبررون كذبهم بل يفرضونه، وقد أصبحت لهم فيه خبرة حتى لا تكاد تكذّبهم من ملامحهم، فهم يرون أنهم أحرار في ذلك، وفي إخلاف الوعود ونقض العهود، فهو من سمات السياسي الناجح والتاجر الناجح، فالسياسي يقول –مبررًا-: هذه هي السياسة، والتاجر يقول: هذه هي التجارة، وقد يعامل زبونه بأمانة رياء لجذبه إليه لا لوجه الله.
ولا مكان لبر الوالدين –مثلا– عند الكبر ما دامت المنفعة المادية غير مرجُوّة منهما، وكل ما بقي عند الناس من أخلاق غير مادية إنما هي بقية من الفطرة التي لم تصلها يد العلمانية بالمسخ، وأخلاق الرسالات الإلهية.
إنهم يقتلون الضمير البشري، فهذا النظام يسير بالبشرية نحو الهاوية في غمرة البهرج المادي، فهو يترك الأخلاق هملا للأهواء والشهوات والتقلبات الإقتصادية دون إصلاح أو تهذيب، وفرقٌ بين من يرى الدنيا دار امتحان ومن ينظر إليها على أنها فرصة للمتاع يجب انتهازها دون ضابط.
كما أن مبدأ الحرية الشخصية مبدأ غامض، ودعوة إلى التسيّب واللاإنتماء واللاإلتزام، فالحرية ليست غاية، ولكنها وسيلة للسعادة، التي تتحقق بالتحرر من القيود والضغوط الفاسدة، والإنضباط والإلتزام بالمعايير والقواعد الصحيحة التي تنظم الحياة الفردية والجماعية.
ولذلك اعترف الخبراء بأنه حيث تتسع هذه الحرية على حساب تلك القواعد يكثر الإجرام، فهي تصنع جوا يقبر الفضيلة ويشجع كل رذيلة، حيث يجد أهل الشر متنفسهم، ولذلك نجد الفجرة والمجرمين يحتجون بمبادئها، والشهوات البهيمية والسبعية وغيرها مرتبطة ببعضها، وكل واحدة تقول للأخرى: خذيني معك، ثم النتيجة معروفة وملموسة.
ومن تسليمهم للشهوات إعطاء الحق لعامة الناس المصلحين والمفسدين في اختيار المشرعين والحكام حسب مصالحهم الذاتية، بل الوصول إلى الحكم ووضع الشرائع.
ولذلك كان من فلاسفة اليونان الأوائل من أنكر هذا، كسقراط الذي قُتل بسبب مناهضته للحكم الديمقراطي، إذ كان يرى أن الحكم الصحيح يجب أن يبنى على العلم الصحيح لا شهوات غالبية الناس، لأن الحق يُعرف بالدليل والإقناع لا بعدد الأصوات، عن طريق الإنتخاب والإستفتاء وسبر الآراء وغير ذلك، حتى لا يكون الأكثر صراخا هو الأولى بالحق والحكم، الأمر الذي يؤدي إلى طمس معيار العلم والحقيقة.
فالقانون يجب أن يكون تعبيرا عن الحق لا عن إرادة الناس، أو الجزء الأكبر من الناس، أو التوسط بين الأطراف والتيارات المتناقضة، إلا في المسائل المبهمة أو الإختيارية، التي لا تدخل في ميزان الخير والشر، حيث يمكن الترجيح بالكثرة جبرًا للخواطر، فينبغي على الفرد والأقلية والأكثرية أن يذعنوا للحق لا للفرد المستبد ولا للأكثرية المستبدة.
إن العلمانية تقوم على التسليم للشهوات الواقعة وتنميتها، وإن كان فيها الهلاك، فهذه الجاهلية القادمة من الغرب والتي حطت رحالها بيننا منذ زمان تقوم على إقرار الشهوات، لا كأمر واقع تتعامل معه بما يصلحه، بل هي هدف وغاية ومبدأ توضع على أساسه القواعد.
فالديمقراطية تفسح مجالا واسعا للإحتيال، وفيها ثغرات يستغلها الأقوياء ليفعلوا ما بدا لهم، وإن لم يجدوا قانونا فرضوا الأمر الواقع، من ذلك الإنتخاب إجمالا على الدساتير والبرامج دون تفصيل، فيستغل الحكام هذه الثغرة لإمرار مشاريعهم، كالتجويع مع السلام أو الحرب مع تخفيض الضرائب والبطالة.
والديمقراطية تعتبر الرياء وابتغاء المصلحة الشخصية دون غيرها أصلا، ثم هم يلمزون الدعاة إلى الإسلام بالرياء وابتغاء الدنيا! والديمقراطية تجعل طلب المناصب أصلا، وهو ما يؤدي إلى استغلالها لأغراض غير شريفة، ومعارضة الحاكم هي من أجل المعارضة فقط أنانية لا للحق، إذ يتحول الخارج من الحكم إلى معارض بالضرورة والعكس بالعكس.
ثم نجد أهلها يتهمون من يدعو لدين الله بابتغاء الحكم! فهي تجعل حرب الزعامات والمصالح قاعدة قانونية مشروعة، وقد اصطلح أهل العقول على إنكارها، إن هذه المبادئ ليست فاسدة فحسب، بل هي تشجع الفساد وتقننه.
بقلم : محمد سلامي