أبو الفداء
عضو مساهم
- البلد/ المدينة :
- لا شيء
- المُسَــاهَمَـاتْ :
- 210
- نقاط التميز :
- 257
- التَـــسْجِيلْ :
- 29/09/2012
العبودية لله وحده هي شطر الركن الأول في العقيدة الإسلامية المتمثل في شهادة : أن لا إله إلا الله . والتلقي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كيفية هذه العبودية - هو شطرها الثاني ، المتمثل في شهادة أن محمداً رسول الله .
والقلب المؤمن المسلم هو الذي تتمثل فيه هذه القاعدة بشطريها ، لأن كل ما بعدهما من مقومات الإيمان ، وأركان الإسلام ، إنما هو مقتضى لها . فالإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، وكذلك الصلاة والزكاة والصيام والحج ، ثم الحدود والتعازير والحل والحرمة والمعاملات والتشريعات والتوجيهات الإسلامية ... إنما تقوم كلها على قاعدة العبودية لله وحده ، كما أن المرجع فيها كلها هو ما بلَّغه لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربه .
والمجتمع المسلم هو الذي تتمثل فيه تلك القاعدة ومقتضايتها جميعاً لأنه بغير تمثل تلك القاعدة ومقتضايتها فيه لا يكون مسلماً .
ومن ثم تصبح شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، قاعدة لمنهج كامل تقوم عليه حياة الأمة المسلمة بحذافيرها ، فلا تقوم هذه الحياة قبل أن تقوم هذه القاعدة ، كما أنها لا تكون حياة إسلامية إذا قامت على غير هذه القاعدة ، أو قامت على قاعدة أخرى معها ، أو عدة قواعد أجنبية عنها :
{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } ... [ يوسف : 40 ]
{ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } .. [ النساء : 80 ]
* * *
هذا التقرير الموجز المطلق الحاسم يفيدنا في تحديد كلمة الفصل في قضايا أساسية في حقيقة هذا الدين ، وفي حركته الواقعية كذلك :
إنه يفيدنا أولاً في تحديد " طبيعة المجتمع المسلم " .
ويفيدنا ثانياً في تحديد " منهج نشأة المجتمع المسلم " .
ويفيدنا ثالثاً في تحديد " منهج الإسلام في مواجهة المجتمعات الجاهلية " .
ويفيدنا رابعاً في تحديد " منهج الإسلام في مواجهة واقع الحياة البشرية " .
وهي قضايا أساسية بالغة الخطورة في منهج الحركة الإسلامية قديماً وحديثاً .
* * *
إن السمة الأولى المميزة لطبيعة ( المجتمع المسلم ) هي أن هذا المجتمع يقوم على قاعدة العبودية لله وحده في أمره كله .. هذه العبودية التي تمثلها وتكيفها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله .
وتتمثل هذه العبودية في التصور الاعتقادي ، كما تتمثل في الشعائر التعبدية ، كما تتمثل في الشرائع القانونية سواء .
فليس عبداً لله وحده من لا يعتقد بوحدانية الله سبحانه :
{ وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ، وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ } ... [ النحل : 51 - 52 ]
ليس عبداً لله وحده من يتقدم بالشعائر التعبدية لأحد غير الله - معه أو من دونه :
{ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ الأنعام : 162 - 163 ]
وليس عبداً لله وحده من يتلقى الشرائع القانونية من أحد سوى الله ، عن الطريق الذي بَلَّغَنَا الله به ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [ الشورى : 21 ]
{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [ الحشر : 7 ]
هذا هو المجتمع المسلم . المجتمع الذي تتمثل العبودية لله وحده في معتقدات أفراده وتصوراتهم ، كما تتمثل في شعائرهم وعبادتهم ، كما تتمثل في نظامهم الجماعي وتشريعاتهم .. وأيما جانب من هذه الجوانب تخلف عن الوجود فقد تخلف الإسلام نفسه عن الوجود . لتخلف ركنه الأول ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
ولقد قلنا : إن العبودية لله تتمثل في " التصور الاعتقادي " .. فيحسن أن نقول ما هو التصور الاعتقادي الإسلامي .. إنه التصور الذي ينشأ في الإدراك البشري من تلقيه لحقائق العقيدة من مصدرها الرباني ، والذي يتكيف به الإنسان في إدراكه لحقيقة ربه ، ولحقيقة الكون الذي يعيش فيه - غيبه وشهوده - ولحقيقة الحياة التي ينتسب إليها - غيبها وشهودها - ولحقيقة نفسه .. أي لحقيقة الإنسان ذاته .. ثم يكيف على أساسه تعامله مع هذه الحقائق جميعاً ، تعامله مع ربه تعاملاً تتمثل فيه عبوديته لله وحده ، وتعامله مع الكون ونواميسه ومع الأحياء وعوالمها ، ومع أفراد النوع البشري وتشكيلاته تعاملاً يستمد أصوله من دين الله - كما بَلَّغَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم - تحقيقاً لعبوديته لله وحده في هذا التعامل .. وهو بهذه الصورة يشمل نشاط الحياة كله .
* * *
فإذا تقرر أن هذا هو " المجتمع المسلم " ، فكيف ينشأ هذا المجتمع ؟ ما منهج هذه النشأة ؟
إن هذا المجتمع لا يقوم حتى تنشأ جماعة من الناس تقرر أن عبوديتها الكاملة لله وحده ، وأنها لا تدين بالعبودية لغير الله .. لا تدين بالعبودية لغير الله في الاعتقاد والتصور ، ولا تدين لغير الله في العبادات والشعائر .. ولا تدين بالعبودية لغير الله في النظام والشرائع .. ثم تأخذ بالفعل في تنظيم حياتها كلها على أساس هذه العبودية الخالصة .. تنقي ضمائرها من الاعتقاد في ألوهية أحد غير الله - معه أو من دونه - وتنقي شعائرها من التوجه بها لأحد غير الله - معه أو دونه - وتنقي شرائعها من التلقي عن أحد غير الله - معه أو من دونه .
عندئذ - وعندئذ فقط - تكون هذه الجماعة مسلمة ، ويكون هذا المجتمع الذي أقامته مسلماً كذلك .. فأما قبل أن يقرر ناس من الناس إخلاص عبوديتهم لله - على النحو الذي تقدم - فإنهم لا يكونون مسلمين .. وأما قبل أن ينظموا حياتهم على هذا الأساس فلا يكون مجتمعهم مسلماً .. ذلك أن القاعدة الأولى التي يقوم عليها الإسلام ، والتي يقوم عليها المجتمع المسلم - هي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله - لم تقم بشطريها ..
وإذن فإنه قبل التفكير في إقامة نظام مجتمع إسلامي ، وإقامة مجتمع مسلم على أساس هذا النظام .. ينبغي أن يتجه الاهتمام أولاً إلى تخليص ضمائر الأفراد من العبودية لغير الله - في أي صورة من صورها التي أسلفنا - وأن يتجمع الأفراد الذين تخلص ضمائرهم من العبودية لغير الله في جماعة مسلمة .. وهذه الجماعة التي خلصت ضمائر أفرادها من العبودية لغير الله ، اعتقاداً وعبادة وشريعة ، هي التي ينشأ منها المجتمع المسلم ، وينظم إليها من يريد أن يعيش في هذا المجتمع بعقيدته وعبادته وشريعته التي تتمثل فيها العبودية لله وحده .. أو بتعبير آخر تتمثل فيها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله .
هكذا كانت نشأة الجماعة المسلمة الأولى التي أقامت المجتمع المسلم الأول .. وهكذا تكون نشأة كل جماعة مسلمة ، وهكذا يقوم كل مجتمع مسلم .
إن المجتمع المسلم إنما ينشأ من انتقال أفراد ومجموعات من الناس من العبودية لغير الله - معه أو من دونه - إلى العبودية لله وحده بلا شريك ، ثم من تقرير هذه المجموعات أن تقيم نظام حياتها على أساس هذه العبودية .. وعندئذ يتم ميلاد جديد لمجتمع جديد ، مشتق من المجتمع الجاهلي القديم ، ومواجه له بعقيدة جديدة ، ونظام للحياة جديد ، يقوم على أساس هذه العقيدة ، وتتمثل فيه قاعدة الإسلام الأولى بشطريه .. شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ..
وقد ينضم المجتمع الجاهلي القديم بكامله إلى المجتمع الإسلامي الجديد وقد لا ينضم ، كما أنه قد يهادن المجتمع المسلم الجديد أو يحاربه ، وإن كانت السنة قد جرت بأن يشن المجتمع الجاهلي حرباً لا هوادة فيها ، سواء على طلائع هذا المجتمع في مرحلة نشوئه - وهو أفراد أو مجموعات - أو على هذا المجتمع نفسه بعد قيامه فعلاً - وهو ما حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية منذ نوح عليه السلام ، إلى محمد عليه الصلاة والسلام ، بغير استثناء .
وطبيعي أن المجتمع المسلم الجديد لا ينشأ ، ولا يتقرر وجوده إلا إذا بلغ درجة من القوة يواجه بها ضغط المجتمع الجاهلي القديم ، قوة الاعتقاد والتصور ، وقوة الخلق والبناء النفسي ، وقوة التنظيم والبناء الجماعي ، وسائر أنواع القوة التي يواجه بها ضغط المجتمع الجاهلي ويتغلب عليه ، أو على الأقل يصمد له !
* * *
ولكن ما هو " المجتمع الجاهلي " ؟ وما هو منهج الإسلام في مواجهته ؟
إن المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم ! وإذا أردنا التحديد الموضوعي قلنا : إنه هو كل مجتمـع لا يخلص عبوديته لله وحده .. متمثلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي ، وفي الشعائر التعبدية ، وفي الشرائع القانونية ..
وبهذا التعريف الموضوعي تدخل في إطار " المجتمع الجاهلي " جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلاً !!
تدخل فيه المجتمعات الشيوعية .. أولاً : بإلحادها في الله - سبحانه - وبإنكار وجـوده أصلاً ، ورجع الفاعلية في هذا الوجود إلى " المادة " أو " الطبيعة " ، ورجع الفاعلية في حياة الإنسان وتاريخه إلى " الاقتصاد " أو " أدوات الإنتاج " ، ثانياً " : بإقامة نظام العبودية فيه للحزب - على فرض أن القيادة الجماعية في هذا النظام حقيقة واقعة ! - لا لله سبحانه ! ثم ما يترتب على ذلك التصور وهذا النظام من إهدار لخصائص " الإنسان " وذلك باعتبار أن " المطالب الأساسية " له هي فقط مطالب الحيوان ، وهي : الطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس ! وحرمانه من حاجات روحه " الإنساني " المتميز عن الحيوان ، وفي أولها : العقيدة في الله ، وحرية اختيارها ، وحرية التعبير عنها ، وكذلك حرية التعبير عن " فرديته " وهي من أخص خصائص " إنسانيته " . هذه الفردية التي تتجلى في الملكية الفردية ، وفي اختيار نوع العمل والتخصص ، وفي التعبير الفني عن " الذات " إلى آخر ما يميز " الإنسان " عن " الحيوان " أو عن " الآلة " إذ أن التصور الشيوعي والنظام الشيوعي سواء ، كثيراً ما يهبط بالإنسان عن مرتبة الحيوان إلى مرتبة الآلة !
وتدخل فيه المجتمعات الوثنية - وهي ما تزال قائمة في الهند واليابان والفلبين وأفريقية - تدخل فيه - أولاً : بتصورها الاعتقادي القائم على تأليه غير الله - معه أو من دونه - وتدخل فيه ثانياً : بتقديم الشعائر التعبدية لشتى الآلهة والمعبودات التي تعتقد بألوهيتها .. كذلك تدخل فيه بإقامة أنظمة وشرائع ، المرجع فيها لغير الله وشريعته . سواء استمدت هذه الأنظمة والشرائع من المعابد والكهنة والسدنة والسحرة والشيوخ ، أو استمدتها من هيئات مدنية " علمانية " تملك سلطة التشريع دون الرجوع إلى شريعة الله .. أي أن لها الحاكمية العليا باسم ( الشعب ) أو باسم ( الحزب ) أو باسم كائن من كان .. ذلك أن الحاكمية العليا لا تكون إلا لله سبحانه ، ولا تزاول إلا بالطريقة التي بَلَّغها عنه رسله .
وتدخل فيه المجتمعات اليهودية والنصرانية في أرجاء الأرض جميعاً .. تدخل فيه هذه المجتمعات أولاً : بتصورها الاعتقادي المحرَّف ، الذي لا يفرد الله - سبحانه - بالألوهية بل يجعل له شركاء في صورة من صور الشرك ، سواء بالبنوة أو بالتثليث ، أو بتصور الله سبحانه على غير حقيقته ، وتصور علاقة خلقه به على غير حقيقتها :
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } .. [ التوبة : 30 ]
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ... [ المائدة : 63 ]
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } ... [ المائدة : 64 ]
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } ... [ المائدة : 18 ]
وتدخل فيه كذلك بشعائرها التعبدية ومراسمها وطقوسها المنبثقة من التصورات الاعتقادية المنحرفة الضالة .. ثم تدخل فيه بأنظمتها وشرائعها ، وهي كلها لا تقوم على العبودية لله وحده ، بالإقرار له وحده بحق الحاكمية ، واستمداد السلطان من شرعه ، بل تقيم هيئات من البشر ، لها حق الحاكمية العليا التي لا تكون إلا لله سبحانه .. وقديماً وصمهم الله بالشرك لأنهم جعلوا هذا الحق للأحبار والرهبان ، يشرعون لهم من عند أنفسهم فيقبلون منهم ما يشرعونه :
{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } .. [ التوبة : 31 ]
وهم لم يكونوا يعتقدون في ألوهية الأحبار والرهبان . ولم يكونوا يتقدمون لهم بالشعائر التعبدية ، إنما كانوا فقط يعترفون لهم بحق الحاكمية ، فيقبلون منهم ما يشرعونه لهم ، بما لم يأذن به الله ، فأولى أن يوصموا اليوم بالشرك والكفر ، وقد جعلوا ذلك لناس منهم ليسوا أحباراً ولا رهباناً .. وكلهم سواء ..
وأخيـراً يدخل فـي إطار المجتمـع الجاهلـي تلك المجتمعات التـي تزعم لنفسهـا أنها " مسلمة " ! .
وهذه المجتمعات لا تدخل في هذا الإطار لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله ، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضاً ، ولكنها تدخل في هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها . فهي - وإن لم تعتقد بألوهية أحد إلا الله - تعطي أخص خصائص الألوهية لغير الله ، فتدين بحاكمية غير الله ، فتتلقى من هذه الحاكمية نظامها ، وشرائعها وقيمها ، وموازينها ، وعاداتها وتقاليدها .. وكل مقومات حياتها تقريباً ! .
والله سبحانه يقول عن الحاكمين :
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } .. [المائدة : 44 ]
ويقول عن المحكومين :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ... } إلى أن يقول { ... فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } .. [ النساء : 60 - 65 ]
كما إنه - سبحانه - قد وصف اليهود والنصارى من قبل بالشرك والكفر والحيدة عن عبادة الله وحده ، واتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دونه ، لمجرد أن جعلوا للأحبار والرهبان ما يجعله الذين يقولون عن أنفسهم أنهم " مسلمون " لناس منهم ! واعتبر الله سبحانه ذلك من اليهود والنصارى شركاً كاتخاذهم عيسى ابن مريم رباً يؤلهونه ويعبدونه سواء . فهذه كتلك خروج من العبودية لله وحده ، فهي خروج من دين الله ، ومن شهادة أن لا إله إلا الله .
وهذه المجتمعات بعضها يعلن صراحة " علمانيته " وعدم علاقته بالدين أصلاً ، وبعضها يعلن أنه " يحترم الدين " ولكنه يخرج الدين من نظامه الاجتماعي أصلاً ، ويقول : إنه ينكر " الغيبية " ويقيم نظامه على " العلمية " باعتبار أن العلمية تناقض الغيبية ! وهو زعم جاهل لا يقول به إلا الجهال ([1]) وبعضها يجعل الحاكمية الفعلية لغير الله ويشرع ما يشاء ثم يقول عما يشرعه من عند نفسه : هذه شريعة الله ! .. وكلها سواء في أنها لا تقوم على العبودية لله وحده ..
وإذا تعين هذا ، فإن موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية كلها يتحدد في عبارة واحدة :
إنه يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها وشرعيتها في اعتباره .
إن الإسلام لا ينظـر إلى العنوانات واللافتات والشارات التي تحملها هذه المجتمعات على اختلافهـا .. إنها كلها تلتقي في حقيقة واحدة .. وهي أن الحياة فيها لا تقـوم على العبودية الكاملة لله وحده . وهي مـن ثم تلتقي - مع سائر المجتمعات الأخرى - فـي صفة واحدة .. صفة " الجاهلية " ..
* * *
وهذا يقودنا إلى القضية الخطيرة وهي منهج الإسلام في مواجهة الواقع البشري كله .. اليوم وغداً وإلى آخر الزمان .. وهنا ينفعنا ما قررناه في الفقرة الأولى عن " طبيعة المجتمع المسلم " ، وقيامه على العبودية لله وحده في أمره كله .
إن تحديد هذه الطبيعة يجيب إجابة حاسمة عن هذا السؤال :
- ما الأصل الذي ترجع إليه الحياة البشرية وتقوم عليه ؟ أهو دين الله ومنهجه للحياة ؟ أم هو الواقع البشري أيّاً كان ؟
إن الإسلام يجيب على هذا السؤال إجابة حاسمة لا يتلعثم فيها ولا يتردد لحظة .. إن الأصل الذي يجب أن ترجع إليه الحياة البشرية بجملتها هو دين الله ومنهجه للحياة .. إن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله التي هي ركن الإسلام الأول ، لا تقوم ولا تؤدى إلا أن يكون هذا هو الأصل .. وأن العبودية لله وحده مع التلقي في كيفية هذه العبودية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تتحقق إلا أن يعترف بهذا الأصل ، ثم يتبع اتباعاً كاملاً بلا تلعثم ولا تردد :
{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [ الحشر: 7 ]
ثم إن الإسلام يسأل :
{ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ }
ويجيب :
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } .. { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً } ..
والذي يعلم - والذي يخلق ويرزق كذلك - هـو الذي يحكم .. ودينه الذي هو منهجه للحياة ، هو الأصل الذي ترجع إليه الحياة .. أما واقع البشر ونظرياتهم ومذاهبهم فهي تفسد وتنحرف ، وتقوم على علم البشر الذين لا يعلمون ، والذين لم يؤتوا من العلم إلا قليلاً !
ودين الله ليس غامضاً ، ومنهجه للحياة ليس مائعاً .. فهو محدد بشطر الشهادة الثاني : محمد رسول الله ، فهو محصور فيما بَلَّغه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من النصوص في الأُصول .. فإن كان هناك نص فالنص هو الحكم ، ولا اجتهاد مع النص . وإن لم يكن هناك نص فهنا يجيء دور الاجتهاد - وفـق أصوله المقررة فـي منهج الله ذاته . لا وفق الأهواء والرغبات - :
{ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } .. [ النساء : 59 ]
والأصول المقررة للاجتهاد والاستنباط مقررة كذلك ومعروفة وليست غامضة ولا مائعة .. فليس لأحد أن يقول لشرع يشرعه : هذا شرع الله ، إلا أن تكون الحاكمية العليا لله معلنة ، وأن يكون مصدر السلطات هو الله سبحانه لا ( الشعب ) ولا ( الحزب ) ولا أي من البشر ، وأن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله لمعرفة ما يريده الله ولا يكون هذا لكل من يريد أن يدعي سلطاناً باسم الله . كالذي عرفته أوروبا ذات يوم باسم " الثيوقراطية " أو " الحكم المقدس " فليس شيء من هذا في الإسلام . وما يملك أحد أن ينطق باسم الله إلا رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإنما هنالك نصوص معينة هي التي تحدد ما شرع الله ..
إن كلمة " الدين للواقع " يساء فهمها ، ويساء استخدامها كذلك . نعم إن هذا الدين للواقع . ولكن أي واقع !
.. إنه الواقع الذي ينشئه هذا الدين نفسه ، وفق منهجه ، منطبقاً على الفطرة البشرية في سوائها ، ومحققاً للحاجات الإنسانية الحقيقية في شمولها . هذه الحاجات التي يقررها الذي خلق ، والذي يعلم من خلق :
{ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ الملك : 14 ]
والدين لا يواجه الواقع أيا كان ليقرَّه ويبحث له عن سند منه ، وعن حكم شرعي يعلقه عليه كاللافتة المستعارة ! إنما يواجه الواقع ليزنه بميزانه ، فيقر منه ما يقر ، ويلغي منه ما يلغي ، وينشئ واقعاً غيره إن كان لا يرتضيه ، وواقعه الذي ينشئه هو الواقع . وهذا هو المعنى بأن الإسلام : " دين للواقع " .. أو ما يجب أن تعنيه في مفهومها الصحيح !
ولعله يثار هنا سؤال
:
" أليست مصلحة البشر هي التي يجب أن تصوغ واقعهم ؟ " !
ومرة أخرى نرجع إلى السؤال الذي يطرحه الإسلام ويجيب عليه :
- { أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } ؟
- { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } !
إن مصلحة البشر متضمنة في شرع الله ، كما أَنزله الله ، وكما بَلَّغه عنه رسول الله .. فإذا بدا للبشر ذات يوم أن مصلحتهم في مخالفة ما شرع الله لهم ، فهم .. أولاً : " واهمون " فيما بدا لهم
{ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ، أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى ، فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى } ... [ النجم :23-25 ]
وهم .. ثانياً : " كافرون " .. فما يدعي أحد أن المصلحة فيما يراه هو مخالفاً لما شرع الله ، ثم يبقى لحظة واحدة على هذا الدين . ومن أهل هذا الدين!
([1]) يراجع ما جاء في تفسير قوله تعالى : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ } في الجزء السابع من الظلال
والقلب المؤمن المسلم هو الذي تتمثل فيه هذه القاعدة بشطريها ، لأن كل ما بعدهما من مقومات الإيمان ، وأركان الإسلام ، إنما هو مقتضى لها . فالإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، وكذلك الصلاة والزكاة والصيام والحج ، ثم الحدود والتعازير والحل والحرمة والمعاملات والتشريعات والتوجيهات الإسلامية ... إنما تقوم كلها على قاعدة العبودية لله وحده ، كما أن المرجع فيها كلها هو ما بلَّغه لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربه .
والمجتمع المسلم هو الذي تتمثل فيه تلك القاعدة ومقتضايتها جميعاً لأنه بغير تمثل تلك القاعدة ومقتضايتها فيه لا يكون مسلماً .
ومن ثم تصبح شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، قاعدة لمنهج كامل تقوم عليه حياة الأمة المسلمة بحذافيرها ، فلا تقوم هذه الحياة قبل أن تقوم هذه القاعدة ، كما أنها لا تكون حياة إسلامية إذا قامت على غير هذه القاعدة ، أو قامت على قاعدة أخرى معها ، أو عدة قواعد أجنبية عنها :
{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } ... [ يوسف : 40 ]
{ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } .. [ النساء : 80 ]
* * *
هذا التقرير الموجز المطلق الحاسم يفيدنا في تحديد كلمة الفصل في قضايا أساسية في حقيقة هذا الدين ، وفي حركته الواقعية كذلك :
إنه يفيدنا أولاً في تحديد " طبيعة المجتمع المسلم " .
ويفيدنا ثانياً في تحديد " منهج نشأة المجتمع المسلم " .
ويفيدنا ثالثاً في تحديد " منهج الإسلام في مواجهة المجتمعات الجاهلية " .
ويفيدنا رابعاً في تحديد " منهج الإسلام في مواجهة واقع الحياة البشرية " .
وهي قضايا أساسية بالغة الخطورة في منهج الحركة الإسلامية قديماً وحديثاً .
* * *
إن السمة الأولى المميزة لطبيعة ( المجتمع المسلم ) هي أن هذا المجتمع يقوم على قاعدة العبودية لله وحده في أمره كله .. هذه العبودية التي تمثلها وتكيفها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله .
وتتمثل هذه العبودية في التصور الاعتقادي ، كما تتمثل في الشعائر التعبدية ، كما تتمثل في الشرائع القانونية سواء .
فليس عبداً لله وحده من لا يعتقد بوحدانية الله سبحانه :
{ وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ، وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ } ... [ النحل : 51 - 52 ]
ليس عبداً لله وحده من يتقدم بالشعائر التعبدية لأحد غير الله - معه أو من دونه :
{ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ الأنعام : 162 - 163 ]
وليس عبداً لله وحده من يتلقى الشرائع القانونية من أحد سوى الله ، عن الطريق الذي بَلَّغَنَا الله به ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [ الشورى : 21 ]
{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [ الحشر : 7 ]
هذا هو المجتمع المسلم . المجتمع الذي تتمثل العبودية لله وحده في معتقدات أفراده وتصوراتهم ، كما تتمثل في شعائرهم وعبادتهم ، كما تتمثل في نظامهم الجماعي وتشريعاتهم .. وأيما جانب من هذه الجوانب تخلف عن الوجود فقد تخلف الإسلام نفسه عن الوجود . لتخلف ركنه الأول ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
ولقد قلنا : إن العبودية لله تتمثل في " التصور الاعتقادي " .. فيحسن أن نقول ما هو التصور الاعتقادي الإسلامي .. إنه التصور الذي ينشأ في الإدراك البشري من تلقيه لحقائق العقيدة من مصدرها الرباني ، والذي يتكيف به الإنسان في إدراكه لحقيقة ربه ، ولحقيقة الكون الذي يعيش فيه - غيبه وشهوده - ولحقيقة الحياة التي ينتسب إليها - غيبها وشهودها - ولحقيقة نفسه .. أي لحقيقة الإنسان ذاته .. ثم يكيف على أساسه تعامله مع هذه الحقائق جميعاً ، تعامله مع ربه تعاملاً تتمثل فيه عبوديته لله وحده ، وتعامله مع الكون ونواميسه ومع الأحياء وعوالمها ، ومع أفراد النوع البشري وتشكيلاته تعاملاً يستمد أصوله من دين الله - كما بَلَّغَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم - تحقيقاً لعبوديته لله وحده في هذا التعامل .. وهو بهذه الصورة يشمل نشاط الحياة كله .
* * *
فإذا تقرر أن هذا هو " المجتمع المسلم " ، فكيف ينشأ هذا المجتمع ؟ ما منهج هذه النشأة ؟
إن هذا المجتمع لا يقوم حتى تنشأ جماعة من الناس تقرر أن عبوديتها الكاملة لله وحده ، وأنها لا تدين بالعبودية لغير الله .. لا تدين بالعبودية لغير الله في الاعتقاد والتصور ، ولا تدين لغير الله في العبادات والشعائر .. ولا تدين بالعبودية لغير الله في النظام والشرائع .. ثم تأخذ بالفعل في تنظيم حياتها كلها على أساس هذه العبودية الخالصة .. تنقي ضمائرها من الاعتقاد في ألوهية أحد غير الله - معه أو من دونه - وتنقي شعائرها من التوجه بها لأحد غير الله - معه أو دونه - وتنقي شرائعها من التلقي عن أحد غير الله - معه أو من دونه .
عندئذ - وعندئذ فقط - تكون هذه الجماعة مسلمة ، ويكون هذا المجتمع الذي أقامته مسلماً كذلك .. فأما قبل أن يقرر ناس من الناس إخلاص عبوديتهم لله - على النحو الذي تقدم - فإنهم لا يكونون مسلمين .. وأما قبل أن ينظموا حياتهم على هذا الأساس فلا يكون مجتمعهم مسلماً .. ذلك أن القاعدة الأولى التي يقوم عليها الإسلام ، والتي يقوم عليها المجتمع المسلم - هي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله - لم تقم بشطريها ..
وإذن فإنه قبل التفكير في إقامة نظام مجتمع إسلامي ، وإقامة مجتمع مسلم على أساس هذا النظام .. ينبغي أن يتجه الاهتمام أولاً إلى تخليص ضمائر الأفراد من العبودية لغير الله - في أي صورة من صورها التي أسلفنا - وأن يتجمع الأفراد الذين تخلص ضمائرهم من العبودية لغير الله في جماعة مسلمة .. وهذه الجماعة التي خلصت ضمائر أفرادها من العبودية لغير الله ، اعتقاداً وعبادة وشريعة ، هي التي ينشأ منها المجتمع المسلم ، وينظم إليها من يريد أن يعيش في هذا المجتمع بعقيدته وعبادته وشريعته التي تتمثل فيها العبودية لله وحده .. أو بتعبير آخر تتمثل فيها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله .
هكذا كانت نشأة الجماعة المسلمة الأولى التي أقامت المجتمع المسلم الأول .. وهكذا تكون نشأة كل جماعة مسلمة ، وهكذا يقوم كل مجتمع مسلم .
إن المجتمع المسلم إنما ينشأ من انتقال أفراد ومجموعات من الناس من العبودية لغير الله - معه أو من دونه - إلى العبودية لله وحده بلا شريك ، ثم من تقرير هذه المجموعات أن تقيم نظام حياتها على أساس هذه العبودية .. وعندئذ يتم ميلاد جديد لمجتمع جديد ، مشتق من المجتمع الجاهلي القديم ، ومواجه له بعقيدة جديدة ، ونظام للحياة جديد ، يقوم على أساس هذه العقيدة ، وتتمثل فيه قاعدة الإسلام الأولى بشطريه .. شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ..
وقد ينضم المجتمع الجاهلي القديم بكامله إلى المجتمع الإسلامي الجديد وقد لا ينضم ، كما أنه قد يهادن المجتمع المسلم الجديد أو يحاربه ، وإن كانت السنة قد جرت بأن يشن المجتمع الجاهلي حرباً لا هوادة فيها ، سواء على طلائع هذا المجتمع في مرحلة نشوئه - وهو أفراد أو مجموعات - أو على هذا المجتمع نفسه بعد قيامه فعلاً - وهو ما حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية منذ نوح عليه السلام ، إلى محمد عليه الصلاة والسلام ، بغير استثناء .
وطبيعي أن المجتمع المسلم الجديد لا ينشأ ، ولا يتقرر وجوده إلا إذا بلغ درجة من القوة يواجه بها ضغط المجتمع الجاهلي القديم ، قوة الاعتقاد والتصور ، وقوة الخلق والبناء النفسي ، وقوة التنظيم والبناء الجماعي ، وسائر أنواع القوة التي يواجه بها ضغط المجتمع الجاهلي ويتغلب عليه ، أو على الأقل يصمد له !
* * *
ولكن ما هو " المجتمع الجاهلي " ؟ وما هو منهج الإسلام في مواجهته ؟
إن المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم ! وإذا أردنا التحديد الموضوعي قلنا : إنه هو كل مجتمـع لا يخلص عبوديته لله وحده .. متمثلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي ، وفي الشعائر التعبدية ، وفي الشرائع القانونية ..
وبهذا التعريف الموضوعي تدخل في إطار " المجتمع الجاهلي " جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلاً !!
تدخل فيه المجتمعات الشيوعية .. أولاً : بإلحادها في الله - سبحانه - وبإنكار وجـوده أصلاً ، ورجع الفاعلية في هذا الوجود إلى " المادة " أو " الطبيعة " ، ورجع الفاعلية في حياة الإنسان وتاريخه إلى " الاقتصاد " أو " أدوات الإنتاج " ، ثانياً " : بإقامة نظام العبودية فيه للحزب - على فرض أن القيادة الجماعية في هذا النظام حقيقة واقعة ! - لا لله سبحانه ! ثم ما يترتب على ذلك التصور وهذا النظام من إهدار لخصائص " الإنسان " وذلك باعتبار أن " المطالب الأساسية " له هي فقط مطالب الحيوان ، وهي : الطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس ! وحرمانه من حاجات روحه " الإنساني " المتميز عن الحيوان ، وفي أولها : العقيدة في الله ، وحرية اختيارها ، وحرية التعبير عنها ، وكذلك حرية التعبير عن " فرديته " وهي من أخص خصائص " إنسانيته " . هذه الفردية التي تتجلى في الملكية الفردية ، وفي اختيار نوع العمل والتخصص ، وفي التعبير الفني عن " الذات " إلى آخر ما يميز " الإنسان " عن " الحيوان " أو عن " الآلة " إذ أن التصور الشيوعي والنظام الشيوعي سواء ، كثيراً ما يهبط بالإنسان عن مرتبة الحيوان إلى مرتبة الآلة !
وتدخل فيه المجتمعات الوثنية - وهي ما تزال قائمة في الهند واليابان والفلبين وأفريقية - تدخل فيه - أولاً : بتصورها الاعتقادي القائم على تأليه غير الله - معه أو من دونه - وتدخل فيه ثانياً : بتقديم الشعائر التعبدية لشتى الآلهة والمعبودات التي تعتقد بألوهيتها .. كذلك تدخل فيه بإقامة أنظمة وشرائع ، المرجع فيها لغير الله وشريعته . سواء استمدت هذه الأنظمة والشرائع من المعابد والكهنة والسدنة والسحرة والشيوخ ، أو استمدتها من هيئات مدنية " علمانية " تملك سلطة التشريع دون الرجوع إلى شريعة الله .. أي أن لها الحاكمية العليا باسم ( الشعب ) أو باسم ( الحزب ) أو باسم كائن من كان .. ذلك أن الحاكمية العليا لا تكون إلا لله سبحانه ، ولا تزاول إلا بالطريقة التي بَلَّغها عنه رسله .
وتدخل فيه المجتمعات اليهودية والنصرانية في أرجاء الأرض جميعاً .. تدخل فيه هذه المجتمعات أولاً : بتصورها الاعتقادي المحرَّف ، الذي لا يفرد الله - سبحانه - بالألوهية بل يجعل له شركاء في صورة من صور الشرك ، سواء بالبنوة أو بالتثليث ، أو بتصور الله سبحانه على غير حقيقته ، وتصور علاقة خلقه به على غير حقيقتها :
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } .. [ التوبة : 30 ]
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ... [ المائدة : 63 ]
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } ... [ المائدة : 64 ]
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } ... [ المائدة : 18 ]
وتدخل فيه كذلك بشعائرها التعبدية ومراسمها وطقوسها المنبثقة من التصورات الاعتقادية المنحرفة الضالة .. ثم تدخل فيه بأنظمتها وشرائعها ، وهي كلها لا تقوم على العبودية لله وحده ، بالإقرار له وحده بحق الحاكمية ، واستمداد السلطان من شرعه ، بل تقيم هيئات من البشر ، لها حق الحاكمية العليا التي لا تكون إلا لله سبحانه .. وقديماً وصمهم الله بالشرك لأنهم جعلوا هذا الحق للأحبار والرهبان ، يشرعون لهم من عند أنفسهم فيقبلون منهم ما يشرعونه :
{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } .. [ التوبة : 31 ]
وهم لم يكونوا يعتقدون في ألوهية الأحبار والرهبان . ولم يكونوا يتقدمون لهم بالشعائر التعبدية ، إنما كانوا فقط يعترفون لهم بحق الحاكمية ، فيقبلون منهم ما يشرعونه لهم ، بما لم يأذن به الله ، فأولى أن يوصموا اليوم بالشرك والكفر ، وقد جعلوا ذلك لناس منهم ليسوا أحباراً ولا رهباناً .. وكلهم سواء ..
وأخيـراً يدخل فـي إطار المجتمـع الجاهلـي تلك المجتمعات التـي تزعم لنفسهـا أنها " مسلمة " ! .
وهذه المجتمعات لا تدخل في هذا الإطار لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله ، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضاً ، ولكنها تدخل في هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها . فهي - وإن لم تعتقد بألوهية أحد إلا الله - تعطي أخص خصائص الألوهية لغير الله ، فتدين بحاكمية غير الله ، فتتلقى من هذه الحاكمية نظامها ، وشرائعها وقيمها ، وموازينها ، وعاداتها وتقاليدها .. وكل مقومات حياتها تقريباً ! .
والله سبحانه يقول عن الحاكمين :
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } .. [المائدة : 44 ]
ويقول عن المحكومين :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ... } إلى أن يقول { ... فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } .. [ النساء : 60 - 65 ]
كما إنه - سبحانه - قد وصف اليهود والنصارى من قبل بالشرك والكفر والحيدة عن عبادة الله وحده ، واتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دونه ، لمجرد أن جعلوا للأحبار والرهبان ما يجعله الذين يقولون عن أنفسهم أنهم " مسلمون " لناس منهم ! واعتبر الله سبحانه ذلك من اليهود والنصارى شركاً كاتخاذهم عيسى ابن مريم رباً يؤلهونه ويعبدونه سواء . فهذه كتلك خروج من العبودية لله وحده ، فهي خروج من دين الله ، ومن شهادة أن لا إله إلا الله .
وهذه المجتمعات بعضها يعلن صراحة " علمانيته " وعدم علاقته بالدين أصلاً ، وبعضها يعلن أنه " يحترم الدين " ولكنه يخرج الدين من نظامه الاجتماعي أصلاً ، ويقول : إنه ينكر " الغيبية " ويقيم نظامه على " العلمية " باعتبار أن العلمية تناقض الغيبية ! وهو زعم جاهل لا يقول به إلا الجهال ([1]) وبعضها يجعل الحاكمية الفعلية لغير الله ويشرع ما يشاء ثم يقول عما يشرعه من عند نفسه : هذه شريعة الله ! .. وكلها سواء في أنها لا تقوم على العبودية لله وحده ..
وإذا تعين هذا ، فإن موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية كلها يتحدد في عبارة واحدة :
إنه يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها وشرعيتها في اعتباره .
إن الإسلام لا ينظـر إلى العنوانات واللافتات والشارات التي تحملها هذه المجتمعات على اختلافهـا .. إنها كلها تلتقي في حقيقة واحدة .. وهي أن الحياة فيها لا تقـوم على العبودية الكاملة لله وحده . وهي مـن ثم تلتقي - مع سائر المجتمعات الأخرى - فـي صفة واحدة .. صفة " الجاهلية " ..
* * *
وهذا يقودنا إلى القضية الخطيرة وهي منهج الإسلام في مواجهة الواقع البشري كله .. اليوم وغداً وإلى آخر الزمان .. وهنا ينفعنا ما قررناه في الفقرة الأولى عن " طبيعة المجتمع المسلم " ، وقيامه على العبودية لله وحده في أمره كله .
إن تحديد هذه الطبيعة يجيب إجابة حاسمة عن هذا السؤال :
- ما الأصل الذي ترجع إليه الحياة البشرية وتقوم عليه ؟ أهو دين الله ومنهجه للحياة ؟ أم هو الواقع البشري أيّاً كان ؟
إن الإسلام يجيب على هذا السؤال إجابة حاسمة لا يتلعثم فيها ولا يتردد لحظة .. إن الأصل الذي يجب أن ترجع إليه الحياة البشرية بجملتها هو دين الله ومنهجه للحياة .. إن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله التي هي ركن الإسلام الأول ، لا تقوم ولا تؤدى إلا أن يكون هذا هو الأصل .. وأن العبودية لله وحده مع التلقي في كيفية هذه العبودية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تتحقق إلا أن يعترف بهذا الأصل ، ثم يتبع اتباعاً كاملاً بلا تلعثم ولا تردد :
{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [ الحشر: 7 ]
ثم إن الإسلام يسأل :
{ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ }
ويجيب :
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } .. { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً } ..
والذي يعلم - والذي يخلق ويرزق كذلك - هـو الذي يحكم .. ودينه الذي هو منهجه للحياة ، هو الأصل الذي ترجع إليه الحياة .. أما واقع البشر ونظرياتهم ومذاهبهم فهي تفسد وتنحرف ، وتقوم على علم البشر الذين لا يعلمون ، والذين لم يؤتوا من العلم إلا قليلاً !
ودين الله ليس غامضاً ، ومنهجه للحياة ليس مائعاً .. فهو محدد بشطر الشهادة الثاني : محمد رسول الله ، فهو محصور فيما بَلَّغه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من النصوص في الأُصول .. فإن كان هناك نص فالنص هو الحكم ، ولا اجتهاد مع النص . وإن لم يكن هناك نص فهنا يجيء دور الاجتهاد - وفـق أصوله المقررة فـي منهج الله ذاته . لا وفق الأهواء والرغبات - :
{ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } .. [ النساء : 59 ]
والأصول المقررة للاجتهاد والاستنباط مقررة كذلك ومعروفة وليست غامضة ولا مائعة .. فليس لأحد أن يقول لشرع يشرعه : هذا شرع الله ، إلا أن تكون الحاكمية العليا لله معلنة ، وأن يكون مصدر السلطات هو الله سبحانه لا ( الشعب ) ولا ( الحزب ) ولا أي من البشر ، وأن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله لمعرفة ما يريده الله ولا يكون هذا لكل من يريد أن يدعي سلطاناً باسم الله . كالذي عرفته أوروبا ذات يوم باسم " الثيوقراطية " أو " الحكم المقدس " فليس شيء من هذا في الإسلام . وما يملك أحد أن ينطق باسم الله إلا رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإنما هنالك نصوص معينة هي التي تحدد ما شرع الله ..
إن كلمة " الدين للواقع " يساء فهمها ، ويساء استخدامها كذلك . نعم إن هذا الدين للواقع . ولكن أي واقع !
.. إنه الواقع الذي ينشئه هذا الدين نفسه ، وفق منهجه ، منطبقاً على الفطرة البشرية في سوائها ، ومحققاً للحاجات الإنسانية الحقيقية في شمولها . هذه الحاجات التي يقررها الذي خلق ، والذي يعلم من خلق :
{ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ الملك : 14 ]
والدين لا يواجه الواقع أيا كان ليقرَّه ويبحث له عن سند منه ، وعن حكم شرعي يعلقه عليه كاللافتة المستعارة ! إنما يواجه الواقع ليزنه بميزانه ، فيقر منه ما يقر ، ويلغي منه ما يلغي ، وينشئ واقعاً غيره إن كان لا يرتضيه ، وواقعه الذي ينشئه هو الواقع . وهذا هو المعنى بأن الإسلام : " دين للواقع " .. أو ما يجب أن تعنيه في مفهومها الصحيح !
ولعله يثار هنا سؤال
:
" أليست مصلحة البشر هي التي يجب أن تصوغ واقعهم ؟ " !
ومرة أخرى نرجع إلى السؤال الذي يطرحه الإسلام ويجيب عليه :
- { أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } ؟
- { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } !
إن مصلحة البشر متضمنة في شرع الله ، كما أَنزله الله ، وكما بَلَّغه عنه رسول الله .. فإذا بدا للبشر ذات يوم أن مصلحتهم في مخالفة ما شرع الله لهم ، فهم .. أولاً : " واهمون " فيما بدا لهم
{ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ، أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى ، فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى } ... [ النجم :23-25 ]
وهم .. ثانياً : " كافرون " .. فما يدعي أحد أن المصلحة فيما يراه هو مخالفاً لما شرع الله ، ثم يبقى لحظة واحدة على هذا الدين . ومن أهل هذا الدين!
([1]) يراجع ما جاء في تفسير قوله تعالى : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ } في الجزء السابع من الظلال