بحث حول الإعتماد الإيجاري
إشكالية تمويل المشروعات الاقتصادية في الوطن العربي ـــ د.فيلالي بومدين*
تمهيد:
تكمُن مشاكل المشروعات الاقتصادية التابعة للقطاع العام أو الخاص في الوطن العربي أساساً في البحث عن مصادر التمويل، لتلبية حاجاتها من المعدات والآلات أو للقيام بالتوسعات في المجال الاستثماري؛ هذا التحدي من شأنه أن يضع قيوداً على حجم المشروع الاقتصادي، وكذلك على إمكانات توسعه واقتنائه لأساليب تكنولوجية حديثة وتالياً المساهمة الفعالة في تنمية الاقتصاد الوطني.
لحل هذا الإشكال من الناحية المالية ترتكز سياسة التمويل في الوطن العربي بصفة أساسية على سبيلين أساسيين؛ يتمثل الأول في اللجوء إلى رأس المال الخاص للمشروع الاقتصادي من خلال حقوق الملكية وذلك عن طريق إصدار أسهم أو زيادة رأس المال أو اقتطاع قدر من أرباح المشروع لتكوين احتياطات؛ أما السبيل الثاني فيكمن في استدانة المشروع من خلال توجهه لسوق المال للاقتراض منه.
ولما كان التمويل من خلال المصدرين السالفين ليس بالشيء السهل، يتجه عادة رجال الأعمال والقائمون على المشروعات الاقتصادية للبحث عن الوسائل التي تخفف أعباء التمويل، كالشراء مع تأجيل الدفع مثلاً أو الشراء مع دفع الثمن على أقساط أو مختلف السبل الأخرى التي تسمح للمشروع من تفادي صعاب الطرق التقليدية في التمويل.
في السياق نفسه فقد ابتدع الفكر المالي الغربي طريقة تمويل جديدة تتمثل في الاعتماد الإيجاري؛ فأصبح هذا الأخير ذروة التطور القانوني للصيغ التمويلية التي تحقق للمشروع الاقتصادي إمكانية الحصول على الأصول الرأسمالية، دون أن يضطر إلى أداء كامل القيمة أو التكلفة اللازمة لذلك.
هذه الطريقة الحديثة لتمويل الاستثمارات بالنسبة للعالم العربي عرفت تطوراً ملحوظاً في الدول المصنعة نظراً لما تتسم به من مرونة، فضلاً عن تكاليفها المنخفضة في أغلب الأحيان فتجعل منها بديلاً ينافس باقي طرق التمويل الأخرى وخاصة التقليدية منها.
مسّت هذه التقنية المالية في بدايتها بعض الأنشطة في مجال الطيران والإعلام الآلي، ثمّ أخذت تتسع بعدها لتمتد إلى جميع القطاعات الاقتصادية؛ فلعبت على سبيل المثال دوراً رائداً في تنمية نشاطات متعددة في دول المجموعة الأوربية وكذلك في اليابان؛ بحيث أن استطاعت هذه الدول عن طريق تبني تقنيات متنوعة في إطار الاعتماد الإيجاري من جلب العديد من الاستثمارات الأجنبية نحوها وهذا من خلال عدم إخضاع الإيجارات التي تدفع نحو الخارج إلى الضرائب؛ كما تمكنت الدول نفسها من تشجيع أرصدتها من خلال منح قروض في صالح التصدير وفي الوقت نفسه سهّلت من عمليات إنشاء العديد من شركات الاعتماد الايجاري.
لكن ما يلاحظ في هذا المجال أن الدول النامية وخاصة العربية منها في أغلبها ما زالت متأخرة نسبياً في تطبيق هذا النوع من التمويل؛ فشركات الاعتماد الإيجاري ما زالت قليلة جداً بالمقارنة مع الدول المصنّعة؛ هذا راجع إلى عدة أسباب منها سيطرة الطرق التقليدية في التمويل على المؤسسات المالية، وعدم قبولها بالمخاطرة في مجالات جديدة للتمويل، ونقص في الاحتراف في المجال المالي والمصرفي وتالياً التهرب نسبياً من المشاركة الفعالة في التنمية الاقتصادية.
بعد هذا التقديم المختصر للموضوع سنشرع في هذا البحث إلى دراسة نشأة وانتشار الاعتماد الايجاري، ثم نقوم بتحديد مفهومه كوسيلة لتمويل المشاريع الاقتصادية، لنتطرق لمبادئه الأساسية والأطراف الفاعلة فيه لنختم هذه الدراسة بإبراز مزاياه والانعكاسات الاقتصادية له.
أولاً: نشأة وانتشار الاعتماد الإيجاري.
الاعتماد الإيجاري (Leasing) هو طريقة للتمويل ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية في خمسينات القرن العشرين حيث نشأت أول شركة متخصصة في الاعتماد الإيجاري تحت اسم (united states leasing internationl) بالتحديد في سنة 1952 في مدينة سان فرنسيسكو(1).
بعد ذلك انتشرت هذه الطريقة في الدول الأوربية مبتدئة بالدول الأنجلوساكسونية لتصل بعد مدة قصيرة إلى جل الدول الغربية وهذا بعد زيادة الاستثمارات الأمريكية في أوربا في أعقاب الحرب العالمية الثانية(2).
في الستينات من القرن العشرين، أضحت هذه الطريقة الجديدة في التمويل، تأخذ مكانة هامة في المجالات الاقتصادية، وتنافس في الوقت نفسه الطرق التقليدية الأخرى كالقرض العادي بما تقدمه من فوائد جلية على كافة المستويات.
واعتمدت العديد من الدول النامية ومن بينها بعض الدول العربية بعد الثمانينات هذه التقنية الحديثة نسبياً؛ فعلى سبيل المثال نصّت عليها تشريعات كل من البرازيل والأرجنتين والمكسيك في أمريكا الجنوبية، مصر والمغرب ونيجيريا والجزائر في القارة الأفريقية.
ثانياً: تعريف الاعتماد الايجاري
تؤكد جُل التشريعات أن الاعتماد الإيجاري هو عملية مالية وتجارية تتم بين طرفين، أولهما هو المؤسسة الممولة وتسمى عادة المؤجر، فتضع تحت تصرف الطرف الثاني وهو المشروع المستفيد أي المستأجر مالاً منقولاً كان أم عقاراً، لفترة محددة غير قابلة للإلغاء، مقابل دفع هذا الأخير أجرة.
فمن خصوصيات هذه العملية أن المؤجر يظل محتفظاً بملكية المال المؤجِّر طوال مدة الإيجار بينما يكون للمستأجر حق استخدام هذا المال والاستفادة من عائداته.
فنلاحظ من الوهلة الأولى أن الاعتماد الايجاري يفصل تماماً بين حق الملكية (الملكية القانونية) وحق استعمالها (الملكية الاقتصادية).
فموضوع عقد الاعتماد الايجاري ـ إذن ـ هو في الأصل، إيجار منقول أو عقار مقابل تقديم أجرة؛ كما يُسمح للمستأجر فيه في نهاية مدة الإيجار بخيارات ثلاث تتمثل في: شراء المال المؤجر أو تجديد عقد الإيجار أو رد المال لمالكه. في الأخير فإن الاعتماد الإيجاري هو تقنية قانونية تسمح للمشاريع الاقتصادية بالحصول على أموال واستعمالها دون دفع سعرها في الحال(3).
بعد هذا التحديد الوجيز لمفهوم الاعتماد الإيجاري سنفند المبادئ الأساسية التي بنيَ عليها هذا الأخيرة مبرزين بصفة أساسية الأطراف المشاركة فيه.
ثالثاً: المبادئ والأطراف الأساسية للاعتماد الايجاري.
تعطي هذه المبادئ للاعتماد الايجاري خصوصيته، بحيث يظهر من المنظور الاقتصادي كعملية تمويل غالباً ما تكون ثلاثية الأطراف تشمل المؤجر المتمثل في المؤسسة المالية، المورد أو المنتج الذي يبيع الأصل الإنتاجي، والمستأجر المستفيد من عملية التمويل؛ وسنتطرق بشيء من التفصيل إلى هذه الأطراف ثم نحدد بعد ذلك المال المؤجر لنعالج مكونات الأجرة والخيارات المقررة للمستأجر في نهاية العقد.
أ ـ أطراف عملية الاعتماد الايجاري.
كما سبق وذكرناه آنفاً أن الاعتماد الإيجاري من الناحية الاقتصادية وفي أغلب الحالات، عملية ثلاثية الأطراف تشمل على التالي:
1 ـ المؤجر: هو المؤسسة الممولة التي تشتري آلات أو معدات أو تأمر ببناء عقارات حسب المواصفات المحددة مسبقاً من طرف المستأجر الذي قد حصل على توكيل منها؛ فيصبح المؤجر مالكاً للمال المؤجر بمجرد دفع ثمنه إلى المورد أو المقاول؛ فحق الملكية في هذه الحالة يلعب دور الضمان الحقيقي في مواجهة المستأجر وكذلك في مواجهة غير المتعامل معه.
بعد عملية الشراء تقوم المؤسسة الممولة (المؤجر) بوضع المال تحت تصرف المستأجر، لينتفع به ويستعمله حسب الغرض الذي خُصص من أجله طوال مدة الإيجار مقابل دفع الأجرة.
وقد اتفقت جل التشريعات في تخصيص الأموال موضوع عقد الاعتماد الإيجاري إلى الأغراض الإنتاجية وتالياً فمن النادر أن تنصب العملية على أموال موجهة للاستهلاك الشخصي؛ لكن التشريعات نفسها اختلفت في تحديد الأشخاص الذين يحق لهم القيام بعمليات الاعتماد الإيجاري؛ فعلى سبيل المثال خص المشرع الفرنسي الشركات التي تتبع النظام القانوني للبنوك والمؤسسات المالية فقط القيام بهذا النشاط، فاعتبر الاعتماد الإيجاري بأنه عمليات ائتمان، وأكد على أن مؤسسات الائتمان هي أشخاص معنوية تتخذ من عمليات البنوك حرفة معتادة لها(4). وسمح في الوطن العربي المشرّع المصري لكل من الشخصيات المعنويّة والاعتبارية بتكوين شركات اعتماد إيجاري فاشترط في الحالتين القيد في سجل المأجورين فقط، مخالفاً بذلك المشرّع الفرنسي(5)؛ وأخيراً سلك المشرّع الجزائري مسلك المشرّع الفرنسي، حيث خص البنوك والمؤسسات المالية بعمليات الاعتماد الإيجاري، إلا أنه أضاف إمكانية إنشاء شركات اعتماد ايجاري من طرف الشخصيات الاعتبارية، مع اشتراط أن تكون مؤهلة قانوناً ومعتمدة صراحة من طرف البنك المركزي(6).
2 ـ المستأجر: هو الشخص الذي يستفيد من العملية المالية، فيستعمل المال المؤجر كما يستنفع من عائداته؛ في أغلب الحالات يترك المؤجر عملية اختيار المال المؤجر وكذلك تحديد مواصفاته للمستأجر؛ فيقوم هذا الأخير بالتفاوض مع المورد أو المقاول كما يمكنه أن يحدد بنود العقد؛ في بعض الحالات يوقع المستأجر إلى جانب المؤجر عقد البيع الذي يبرم بين هذا الأخير والمورد؛ أما في الحالات التي يكون فيها اختيار المعدات أمراً معقداً يتطلب المهارة والتخصص، فيتنازل المؤجر عن حقه في التوقيع على عقد البيع إلى المستأجر لتجنب التورط في مسألة ضمان المعدات.
لكن عندما تكون المؤسسة الممولة هي في الوقت نفسه منتجة للمعدات التي يطلبها المستأجر، فتتدخل في اختبار المال المؤجر، وكذلك في تحديد مواصفاته بما تتمتع به من خبرة وتجربة في الميدان؛ وعلى العموم فالمستأجر يمكن أن يتمثل في جميع الشخصيات الطبيعية والمعنوية سواء ظهرت في شكل مؤسسات أم تجار أم حرفيين أم تعاونيات أم مصالح خدمات عامة.
3 ـ المنتج أو المقاول أو المورد: هو الشخص الذي يصنع أو يبيع أو يشيد المال موضوع عملية الاعتماد الإيجاري وله نوعان من العلاقات؛ منها ما يربطه بالمؤجر وهو المشترى الفعلي للمال وتالياً المالك الأصلي؛ كما يرتبط بالمستأجر وهو المستعمل للمعدات أو العقارات؛ فعلاقات المورد مع المؤسسة الممولة (المؤجر) تنحصر في إجراءات عقد البيع بصفة عامة؛ أما علاقاته مع المستأجر فتستطيع أن تمتد إلى مواصفات العتاد وتاريخ التسليم وضمان العيوب الخفية، وكذلك إلى خدمات الصيانة والتكوين إن وجدت في العقد.
لكن من الناحية القانونية نلاحظ أن عملية الاعتماد الإيجاري، تشمل طرفين فقط وهما المؤجر والمستأجر. فالمورد لا يعتبر طرفاً مباشراً في عقد الاعتماد الإيجاري؛ رغم ذلك رأى جمهور قليل من الفقهاء ضرورة إدماج المورد كطرف في العملية، مبررين موقفهم بأهمية عقد البيع كأساس مادي لعملية الاعتماد الإيجاري، فيؤكدون على تواجد ارتباط وثيق بين العقدين (عقد البيع وعقد الاعتماد الإيجاري) بحيث إذا ما بطل الأول لسبب ما فلا أساس لوجود الثاني(7).
بعد تحديد الأطراف المختلفة للاعتماد الايجاري وتوضيح دور كل واحد منهم في هذه العملية التمويلية، يبقى لنا تسليط الضوء على المال الذي يمكن أن يكون موضوعاً لهذه العملية، والأجرة المنبثقة عنها ومكونات هذه الأخيرة والخيارات المقررة للمستأجر.
4 ـ المال المؤجَّر: يمكن أن يكون المال موضوع عقد الاعتماد الإيجاري منقولاً أو عقاراً مادياً أو معنوياً لازماً للاستخدامات الإنتاجية أو الاستعمال المهني أو متعلقة بالمحلات التجارية؛ يتضح مما سبق أن جل التشريعات تبنت اتجاهاً موسعاً للمال المؤجر، بحيث يمكن أن يكون عقاراً أو منقولاً بنوعيه طالما كانا مخصصان لمباشرة نشاط إنتاجي، وليس استهلاكي في أغلب الحالات؛ فالعبرة ليست إذن بطبيعة المال وإنما بالغرض الذي يخصص له هذا الأخير تبعاً لنشاط المستأجر.
أما المنقول المعنوي كالمحل التجاري والمؤسسات الحرفية وحقوق الملكية الصناعية مثل براءات الاختراع والعلامات التجارية فتصلح كلها لأن تكون محلاً لعقد الاعتماد الإيجاري(8).
ج ـ الأجرة ومكوناتها: هي مبلغ من المال يتعهد المستأجر بدفعه بصفة دورية مقابل حق استعمال المال المؤجر؛ وتهدف الأجرة إلى تغطية رأس المال أي إلى استرجاع رأس المال المستثمر، كما تتضمن هامش يطابق الأرباح أو الفوائد لمكافئة المخاطر المترتبة عن التمويل، إضافة إلى المصاريف التي يمكن أن تنجم لدى المؤجر من جراء إبرام عقد الاعتماد الإيجاري (كمصاريف التوثيق والشهر إلى آخره)؛ والفرق بين الأجرة والقرض أن هذه الأخيرة لا تتحول إلى دين إلا بعد فوات تاريخ استحقاقها.
د ـ الخيارات المقررة للمستأجر.
يتضمن عقد الاعتماد الإيجاري خيارات ثلاثة تتقرر للمستأجر: يسمح له في الأول شراء المال المؤجر في نهاية مدة الإيجار؛ في هذه الحالة يؤخذ بعين الاعتبار ـ عند تقييم مبلغ الشراء الذي يكون مبدئياً محدداً في عقد الاعتماد الإيجاري ـ أقساط الأجرة التي دفعت؛ أما في الاختيار الثاني فيمكنه تجديد عقد الإيجار وفي الاختيار الثالث فعليه أن يرد المال لمالكه.
بعد هذا التقديم للمبادئ الأساسية التي تحكم عقد الاعتماد الإيجاري وأطرافه الفعالة نعالج الآن المزايا التي يوفرها هذا الأخير للمؤسسات المالية من جهة وللمشاريع الاقتصادية، وللاقتصاد الوطني بصفة عامة.
ثالثاً: مزايا الاعتماد الإيجاري.
بناء على المبادئ التي تحكم الاعتماد الإيجاري، وبخاصة المبدأ الذي يفرق بين حق الملكية القانونية الذي يبقى قائماً للمؤسسة المالية (المؤجر) طوال مدة الإيجار، وحق استعمال الأصول (الملكية الاقتصادية) الذي تنفرد به المشاريع الاقتصادية (المستأجر)، تنشأ العديد من المزايا كما تتضح في الوقت نفسه حقوق وواجبات الأطراف المتعاقدة(9).
تتمثل الميزة الأولى في المعاملة الضريبية لكل متعاقد وهي من بين الدوافع الأساسية التي تؤثر على قراراتهم؛ فهناك امتيازات ضريبية تعطى لصالح المؤجر أو المستأجر وفي بعض الحالات للاثنين معاً.
في حالة تطبيق سياسة ضريبية في الوطن العربي تعتمد على محاباة الملكية القانونية، يستفيد المؤجر دون شك من بعض الإعفاءات الضريبية؛ في بريطانيا على سبيل المثال، يستطيع المؤجر في حالة الاعتماد الإيجاري الذي لا يعطى فيه للمستأجر خيار شراء المال عند انتهاء مدة الإيجار، أن يخصم من دخله الخاضع للضريبة، القيمة الكلية التي اشترى بها المال موضوع العقد في السنة الأولى؛ كذلك تعتبر الأجرة بالنسبة للمستأجر بمثابة تكاليف يستطيع خصمها ولا تخضع بالتالي للضريبة.
أما في حالة استخدام الاعتماد الإيجاري الدولي فالإعفاء الضريبي يصل في بريطانيا لغاية
25%، والإجراءات نفسها تتخذها تقريباً جُل الدول المصنّعة. فاليابان ـ مثلاً ـ قد استطاعت تشجيع الاستثمار في مجال الطيران، وهذا من خلال تقنين هيكل ضريبي يطلق عليه اسم (Japanese Leverage lease) ، تمكنت من خلاله من تمويل عملية تجديد ثلثي أسطول الطيران العالمي في 1980(10).
لكن في المقابل إذا كانت السياسة الضريبة المنتهجة في الوطن العربي تنحاز لحماية الملكية الاقتصادية، فإنها ستعطي لا محالة امتيازات ضريبية للمستأجر، بخاصة إذا ما قرر هذا الأخير امتلاك المال المؤجر في نهاية العقد. في السياق نفسه في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً، إذا أصر المستأجر على شراء المال المؤجر في نهاية عقد الاعتماد الإيجاري، اعتبر وكأنه مالك حقيقي لهذا المال، وتالياً يمكنه تسجيله في أرصدته واستهلاكه محاسبياً.
انطلاقاً من هذه السياسة الضريبية غير المحايدة يمكن ـ إذن ـ تشجيع الاستثمارات في مجال الأصول الإنتاجية في الوطن العربي.
أما الميزة الثانية المنبثقة عن مبدأ الفصل بين الملكية القانونية والملكية الاقتصادية، فتتمثل في الضمانة التي يحققها حق الاحتفاظ بملكية المال المؤجر من طرف المؤسسة الممولة؛ لأن عمليات التمويل لابد وأن تقابلها ضمانات، وهذا ما تطلبه جُل البنوك والمؤسسات المالية المقرضة سواء على الصعيد الدولي أو في الوطن العربي من المستثمرين؛ وأحسن ضمان عيني هو حق الملكية، فمن خلاله يستطيع المؤجر استرجاع أمواله متى نشأ خلاف بينه وبين المستأجر أو الآخر المتعامل مع هذا الأخير.
يضاف إلى المزايا الضريبية التي ذكرناها أعلاه، مزايا أخرى يمكن استخلاصها من حقوق وواجبات أطراف هذه العملية الجديدة في تمويل المشروعات الاقتصادية في الوطن العربي؛ فمنها ما يعود بفائدة ملحوظة على المستأجر، ومنها ما يتحقق للمؤجر، وهي تعود في الأخير بنفع إيجابي على الاقتصاد الوطني.
1 ـ بالنسبة للمستأجر:
الاعتماد الإيجاري يكفل العديد من المزايا بالنسبة للمستأجر ـ المتمثل بصفة أساسية في الوطن العربي في المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ـ، من بينها على وجه الخصوص التمويل الكامل لاستثماراته دون أن يتكلف بأي نفقات سابقة على حيازة الأموال المؤجرة؛ هذه الميزة من شأنها تشجيع المستثمرين المبتدئين الشباب الذين لا تتوفر لديهم إمكانات مالية كبيرة، من الحصول على معدات أو آلات أو عقارات لازمة للقيام بمختلف الأنشطة الإنتاجية، فالاعتماد الإيجاري يتميز ـ إذن ـ عن غيره من وسائل التمويل الأخرى؛ فالقروض البنكية التقليدية أو الشراء بالآجل ـ مثلاً ـ يشترط للحصول عليها أن يقدم المتعامل الاقتصادي ضمانات عينية أو شخصية، فضلاً عن سداد دفعات مالية مقدمة من ثمن المعدات المشتراة بالتقسيط؛ كما يلاحظ أن هذه الوسائل لا تمول الاستثمارات بنسبة عالية.
يستفيد المستأجر في الاعتماد الإيجاري من تمويل بنسبة 100% وهذا غير متوفر في طرق التمويل الأخرى؛ فيستطيع في هذه الحالة الاحتفاظ بأمواله الخاصة لتشغيلها لأغراض أخرى في المشروع، كما يحتفظ في الوقت نفسه بإمكانية استخدام طرق أخرى للتمويل كالاقتراض العادي وتالياً التوسيع من طاقته الاستثمارية(11).
فالاعتماد الإيجاري يمتاز ببساطة وليونة تتناسب مع تلبية حاجيات المتعاملين الاقتصاديين وفي الوقت نفسه فإنه يتم بطريقة تساعد على تحسين صورة ميزانية المشروع المستأجر؛ فلا تظهر أقساط الأجرة والأعباء الأخرى التي تترتب من جراء العقد في جانب الخصوم في ميزانية المستأجر، بتعبير آخر لا تظهر في شكل ديون وإنما في صورة تكاليف إنتاج.
كذلك يستطيع المستأجر أن يتفاوض مع المؤجر عن تحديد مبلغ الأجرة على أساس المردودية الاقتصادية للمعدات المؤجرة، وكذلك حسب ظروف السوق؛ كما يمكنه أن يطلب من المؤجر تغيير المعدات إذا ما تجاوزتها التغيرات التقنية أو التكنولوجية دون أن يكلفه ذلك الكثير.
يحق كذلك للمستأجر أن يمتلك المال المؤجر بعد انتهاء مدة الإيجار غير قابلة للإلغاء، وتالياً لا يجوز له قبل هذا الأوان قانوناً التصرف في هذا المال بالبيع أو الرهن أو أي تصرف آخر لأنه لا يتمتع بصفة المالك.
2 ـ بالنسبة للمؤجر.
وهو المؤسسة الممولة حيث يعتبر الاعتماد الإيجاري وسيلة من وسائل الائتمان الأقل خطورة بالنسبة لها؛ في القرض التقليدي على سبيل المقارنة تقوم المؤسسة المالية بمنح المتعامل الاقتصادي الأموال اللازمة لشراء المعدات وتالياً تنتقل ملكية هذه الأخيرة إليه؛ فإذا ما أفلس هذا المتعامل أو أصبح في حالة عسر، فوضعه هذا سيهدد لا محالة مؤسسة التمويل بحيث يصعب عليها استرداد الائتمان بأكمله(12) ويبقى لها الرجوع فقط إلى الضمانات المقدمة من طرف المقترض لعلها تكفي لاسترجاع القرض المقدم.
لكن في حالة الاعتماد الإيجاري، فالمؤسسة الممولة لها ضمان قوي مقابل تقديمها الائتمان والمتمثل في أقوى الحقوق العينية ألا وهو حق الملكية؛ فتظل المؤسسة المالية محتفظة بملكية الأموال المؤجرة طوال مدة الإيجار وتالياً تستطيع استرجاعها في أي وقت يحصل فيه طارئ يهدد الائتمان المقدم.
يضاف إلى ذلك أن المؤسسة الممولة لا تشتري العتاد أو تقوم بتشييد المباني ثمّ تنتظر قدوم الزبائن المستأجرين نحوها وتالياً تمر فترة طويلة بين عملية الشراء وعملية إيجاد الزبون يمكن أن تتعطل أو تتجمد فيها استثماراتها؛ فعملية الشراء أو التشييد لا تتم ـ إذن ـ في الاعتماد الإيجاري إلا بناءً على رغبة المستأجر وبطلب مؤكد منه، وفقاً للمواصفات والشروط التي يحددها بنفسه وتتناسب مع نشاطه(13).
كما يستطيع المؤجر في بعض الحالات من توكيل المستأجر في التعامل مباشرة مع المورد أو المقاول وتالياً تكون له فرصة إخلاء سبيله من بعض الالتزامات المفروضة عليه كمالك للمال بخاصة منها ضمان العيوب الخفية وذلك بطبيعة الحال من خلال الشروط التي توضع في عقد الاعتماد الإيجاري؛ فيُسمح للمستأجر في هذه الحالة بالرجوع على المورد أو المقاول مباشرة بحقوق المؤجر الناشئة من عقد الشراء.
زيادة على ما سبق فإن احتفاظ المؤجر بملكية الأصول المؤجرة تعطيه الحق في استهلاك قيمتها محاسبياً حسبما يجري عليه العمل.
3 ـ بالنسبة للاقتصاد الوطني:
لا تنصب مزايا الاعتماد الإيجاري على طرفي العقد بل تتعداها لتشمل الاقتصاد الوطني، فمن خلاله يستطيع المنتجون والموردون وكذلك المقاولون من تصريف ما لديهم من منتجات مخزنة مع فرصة الحصول على ثمنها على الفور بدلاً من الانتظار أو بيعها بالتقسيط.
تعطي هذه الطريقة ـ إذن ـ الفرصة للمتعاملين الاقتصاديين من تطوير قدراتهم الإنتاجية، وتحريك عجلة الاستثمار في الوطن العربي من خلال حصولهم على تمويل مرن وكامل لمشاريعهم؛ هذا الأمر هو السبب الذي جعل الموردين والمنتجين في الدول المصنِّعة يشجعون المشروعات الراغبة في اقتناء الأصول الإنتاجية باستخدام الاعتماد الإيجاري؛ كما يشجع في الوقت نفسه المؤسسات المالية من تقديم فرص التمويل للعديد من المستثمرين دون أن تخاطر برؤوس أموالها بما يوفره من ضمانات قوية تمكنها من استرجاع مستحقاتها بكل سهولة.
يضاف إلى هذا أن للاعتماد الإيجاري مزايا وتأثير هام على الاقتصاد الوطني، تتمثل في دفع عجلة التنمية من خلال تعدد البدائل التمويلية وتنوّعها وهذا ما يؤدي إلى خلق نوع من المنافسة بين المشاريع الاقتصادية يترتب عليه تقوية وتنويع المنتجات على مستوى السوق الداخلية مما يؤثر على مستويات الأسعار وكذلك يخلق فرص للتشغيل.
تعمل كذلك هذه الطريقة في التمويل على تحسين ميزان المدفوعات للدولة، بخاصة في حالة الاعتماد الإيجاري الدولي عندما يكون المؤجر مقيم في دولة أجنبية؛ فإن تحويل العملة الصعبة سيقتصر على القيمة الإيجارية بدلاً من دفع كامل ثمن الأصول الإنتاجية، وهذا ما يقلل من حجم التدفقات النقدية نحو الخارج بالعملة الصعبة.
يساعد كذلك على الحد أو التقليل من آثار الموجات التضخمية على تكلفة عمليات التوسع أو إنشاء مشاريع جديدة، بحيث يقضي على فترات الانتظار التي تحتاج إليها المشاريع لتدبير حاجاتها إلى المال(14)؛ فهذه الفترات قد تطول جداً في حالة ما إذا عمدت المشروعات إلى تكوين احتياطي مالي من خلال طرح أسهم جديدة للبيع للزيادة في رأسمالها؛ هذا ما يؤدي حتماً إلى ارتفاع تكلفة التوسعات المقرر إجرائها لو قورنت بالتكلفة التي تتحقق لو تم تنفيذها عن طريق الاعتماد الإيجاري؛ هذا ما أدى إلى اعتبار الاعتماد الإيجاري كعامل ثبات الاستثمارات خلال فترة الأزمات الاقتصادية(15).
الخلاصة:
إذا كان الاعتماد الإيجاري كطريقة في تمويل المشاريع الاقتصادية قد أثبتت نجاحها في الدول المصنِّعة، فلا يزال لا يحتل المكانة المرموقة في الكثير من الدول النامية وعلى وجه الخصوص في الوطن العربي.
ولمعالجة هذا الوضع فعلى الدول العربية أن تفتح مجال الاحتراف أمام الوساطة المالية بهدف الزيادة في مصادر التمويل لمختلف القطاعات الاقتصادية؛ فتبنّي هذه الطريقة ليس معناه حتماً حل كل مشاكل التمويل وتالياً مشاكل الاستثمار في العالم العربي؛ لكن مما لا شك فيه أنها قد أثبتت منذ زمن طويل فائدتها في الدول المصنعة.
فيمكن للدول النامية وعلى رأسها الدول العربية أن تستفيد من التجربة باستخلاص ما لها من مزايا وتجنب الأخطاء التي سبقتها فيها بعض الدول المصنعة. فانطلاقاً من مراعاة الجوانب التنظيمية من الناحية القانونية والاقتصادية، بخاصة منها تطويع ومراجعة النظم الضريبية والجمركية وكذلك المحيط القضائي لحل المنازعات التي يمكن أن تنجم وقت تطبيق العملية؛ فدون هذه المراجعة العامة لا يمكن للاعتماد الإيجاري تحقيق الأهداف المرجوة منه.
هوامش:
(1) Croisat. J: these de driot, le credit bail, Universite de Lyon(France), 1966, p7.
(2) Calais-Aulais: credit-bail (leasing), Encyclopedie Dalloz commercial, 1981, N 5.
(3) د. بوبكار: الخصائص القانونية للاعتماد الايجاري لدى البنك الإسلامي للتنمية، مداخلة ألقيت في الملتقى حول الاعتماد الإيجاري المنعقد يومي 24 و25 فبراير 1995 بالجزائر.
(4) المادة 1 فقرة 1 من القانون رقم 84/ 708 المؤرخ في 4/1/1084 المتضمن تنظيم ومراقبة مؤسسات الائتمان بفرنسا.
(5) المادة 1 من القانون رقم 95 لسنة 1995 المنظم للتأجير التمويلي، الجريدة الرسمية المصرية عدد 22 الصادرة في 2/7/1995.
(6) المادة 1 فقرة 2 من الأمر رقم 96/ 09 المؤرخ في 10/1/1996 الجريدة الرسمية الجزائرية العدد 3 الصادرة في 14/1/1996.
(7) BEY, E.M: “Les aspects juridiques de la convetion de credit-bail mobilier”, J.C.P 1969, ed. Cl. 86634.
(8) د. سيد علي قاسم: الجوانب القانونية للإيجار التمويلي، دار النهضة العربية، القاهرة/ 1995، صفحة 10.
(9) فايز نعيم رضوان: عقد الائتمان الإيجاري، طبعة 1985، دار الفكر العربي، القاهرة، صفحة 74.
(10) Goyet. Ch: le louage et la propriete a l’epreuve du credit-bail, Strasbourg, 1981, p254.
(11) د. هاني محمد دودار: النظام القانوني للتأجير التمويلي، مكتبة الإشعاع القانونية، طبعة 1998، صفحة
94.
(12) د. محمود فهمي، منير سالم، حمد الله سالم: التأجير التمويلي، الجوانب القانونية والمحاسبية والتنظيمية، طبعة 1997، دار النهضة العربية، القاهرة، صفحة 58.
(13) Gavalda Ch: credit-bail mobilier, Juris-classeur banque et crédit, fasc., 1979,1,58El, l cahier n 18.
(14) المستشار محمود فهمي: التأجير التمويلي كوسيلة من وساك التمويل، مجلة مصر المعاصرة العدد 396 الصادرة في شهر إبريل 1984، صفحة 108.
(15) المستشار محمود فهمي: التأجير التمويلي كوسيلة من وسائل التمويل، مجلة مصر المعاصرة العدد 396 الصادرة في شهر إبريل 1984، صفحة 1.
* أستاذ بكلية العلوم الاقتصادية ، جامعة بلعباس – الجزائر.