محمد وسيم
المراقب العام
- رقم العضوية :
- 581
- البلد/ المدينة :
- الجزائر
- العَمَــــــــــلْ :
- أعمال حرة
- المُسَــاهَمَـاتْ :
- 4211
- نقاط التميز :
- 6095
- التَـــسْجِيلْ :
- 30/04/2010
رفيق يونس المصري
أستاذ مساعد - مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
كلية الاقتصاد والإدارة - جامعة الملك عبدالعزيز
المستخلص :
في دراسات سابقة تم التركيز على آراء جمهور الأئمة والعلماء ، في مبادلات الحلي الذهبية والفضية ، حيث اشترطوا فيها التماثل والتعجيل . وفي هذه الدراسة يتم التركيز على رأي الإمامين ابن تيمية وابن القيم ، اللذين أجازا التفاضل والتأجيل . ووجه هذا الرأي أن الصناعة تنقل الذهب والفضة من مال ربوي إلى مال غير ربوي ، فإذا كانت علة الربا في الذهب والفضة الواردين في الحديث النبوي الشريف هي الثمنية ، فإنهما بالصناعة لم يعودا من الأثمان (النقود) . وهذا الرأي فيه الكثير من التيسير على الصاغة والمتعاملين معهم ، إذ يصبح التعامل بهذه الحلي كالتعامل بالسلع العادية التي لا تخضع لأي قيود ربوية . لم يكتف الباحث ، في هذا البحث ، بإبراز هذا الرأي فحسب ، بل اهتم أيضاً ببيان أصوله ، من حيث التعريف بالعلماء الذين أجازوا التفاضل في هذا النوع من المبادلات ، والعلماء الذين أجازوا النَّساء (تأجيل أو تأخير البدل) .
مقدمة
الحمدلله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم المرسلين ، ورضي الله عن الصحابة أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد :
فقد اطلعت على فتاوى أو بحوث ، ذهب فيها أصحابها إلى منع التفاضل والنَّساء ، أي إلى وجوب التماثل والتقابض ، في مبادلات حلي الذهب والفضة . ولا شك أن ما ذهب إليه هؤلاء العلماء هو الأحوط ، ولكنه الأشد ، في معاملات الصاغة وتجار الحلي الذهبية والفضية .
وبالمقابل هناك آراء أخرى مخالفة ، لعلماء كبار، مثل الإمام ابن تيمية، والإمام ابن القيم ، اللذين ذهبا إلى جواز التفاضل (في الذهب بالذهب، والفضة بالفضة) لأجل الصياغة أو الصنعة، وكذلك إلى جواز النَّساء (الأجل) . ذلك بأن الحلي المباحة تصير بالصياغة المباحة داخلة في السلع، وخارجة عن الأثمان (النقود) ، وعندئذ فلا ربا بينها وبين الأثمان، فيجوز فيها الفضل والنَّساء ، ولا تعود لهذه المهنة خصوصية "ربوية" ، إنما تمارس عندئذٍ كما تمارس سائر المهن والتجارات، بالآداب الشرعية والأحكام العامة .
ومن الواضح أن ما ذهب إليه الإمامان ابن تيمية وابن القيم ، منذ القرن الثامن الهجري ، فيه تيسير كبير على تجار الذهب والفضة ، من المسلمين ، إذْ يخرجهم من القلق والمشقة والحيل ، ولا يلجئهم إلى الفرار من هذه الصناعة والتجارة ، وتركها لغيرهم ، ولا يسد عليهم باب الدَّين ، فلو سُدَّ عليهم هذا الباب لتضرروا بذلك غاية الضرر ، كما قال ابن القيم .
ولئن كان هذان الإمامان الجليلان يفتيان بفتواهما هذه، منذ سبعة قرون، فلا غرو أن تجارة الحلي أحوج اليوم إلى مثل هذه الفتاوى، مع تطاول الزمن، وتغير الظروف والأحوال وأساليب المعاملات . ولئن كانت هذه الآراء لا تعبر عن مذاهب جماهير العلماء ، إلا أن لها وجهاً شرعياً مقبولاً .
ومن المهم هنا أن نعرف أيضاً أن رأي ابن تيمية وابن القيم له أصل قديم عند السلف، فهو رأي الحسن، وإبراهيم، والشعبي، الذين يبدو أنهم أجازوا الفضل لمراعاة الصنعة (انظر الفقرة 5 من هذا البحث) ، ورأي معاوية بن أبي سفيان والحسن البصري اللذين يبدو أنهما أجازا الفضل والنَّساء (انظر الفقرة 14 من هذا البحث) .
على أننا ندعو تجار الذهب والفضة إلى العمل بالأحوط كلما أمكن ، لاستحباب الخروج أو التقليل ، من الخلاف الفقهي بين العلماء ، ولاستحباب العمل برأي الجمهور .
وقد بدأت في تسليط الضوء على الموضوع، في كتابين لي سابقين، هما : "الإسلام والنقود" ، والجامع في أصول الربا" . وآثرت في هذا البحث التيسير والوضوح ، سائلاً المولى تعالى أن يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى .
1 ــ أحكام الذهب والفضة : هل هي واحدة أم مختلفة ؟
1 ـ أحكام الذهب والفضة واحدة في مجال الربا ، وتدخل في ذلك تجارة حلي الذهب والفضة . فقد جمعت بينهما أحاديث الربا . من ذلك قوله r : "الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة (...) مِثْلاً بمثل ، سواءً بسواء ، يداً بيد" (صحيح مسلم بشرح النووي 4/98) .
ولهذا السبب جمعنا بين الذهب والفضة في بحث واحد، هو هذا البحث .
2 ـ أحكام الذهب والفضة واحدة في مجال الآنية ، فلا يجوز اتخاذ آنية الذهب والفضة ، كما سنذكر في الفقرة التالية .
3 ـ أحكام الذهب والفضة مختلفة في مجال اللباس والزينة ، فالذهب والفضة جائزان للنِّساء، أما الرجال فيجوز لهم الفضة دون الذهب ، إلا لضرورة أو حاجة .
2 ـ مشروعية تجارة حلي الذهب والفضة
1 ـ التحلي بالذهب والفضة للإناث جائز .
2 ـ التحلي بالذهب للذكور غير جائز ، وبالفضة جائز (ضمن حدود وقيود تختلف باختلاف المذاهب) قال r : "إن هذين (الحرير والذهب) حرام على ذكور أمتي" (سنن أبي داود 4/50 ، والنَّسائي 8/160، وابن ماجه 2/1189. وانظر سنن الترمذي 4/217، وصحيح البخاري 7/200، ومسلم 13/31) .
ويجوز الذهب للذكور في الأغراض الطبية ، كتضبيب (تلبيس) الأسنان . ففي مسند الإمام أحمد 1/73 : "عثمان بن عفان ضبَّب أسنانه بذهب" ، وذلك لما يتمتع به الذهب من خصائص لا توجد في غيره . قال القتيبـي : كنت أحسب أن قول الأصمعي : إن الفضة لا تنتن صحيحاً ، حتى أخبرني بعض أهل الخبرة أن الذهب لا يبليه الثرى ، ولا يصدئه الندى ، ولا تُنقصه الأرض ، ولا تأكله النار . أما الفضة فإنها تبلى ، وتصدأ ، ويعلوها السواد ، وتنتن" .
ويجوز أيضاً تحلية المصحف بالذهب والفضة ، وآلة الحرب ، كالسيف والرمح .
3 ـ اتخاذ آنية من الذهب أو الفضة غير جائز . قال رسول الله r : "من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه ناراً من جهنم" (صحيح البخاري 7/146، ومسلم 14/30، واللفظ له ) . الجرجرة : صوت وقوع الماء في الجوف .
4 ـ المموَّه (المَطْلِي) من الذهب والفضة فيه خلاف ، ما لم يكن قليلاً .
وعليه فإن هذه الاستعمالات الجائزة ، لحلي الذهب والفضة ، والمطلوبة من المستهلكين والمنتجين ، تعد بمثابة إشارة منهم لقيام صناعة وتجارة تلبيان طلباتهم وأذواقهم وميولهم المختلفة . وهذه الصناعة وتلك التجارة لا شك أنهما جائزتان . وهذا ليس عليه خلاف ، إنما الخلاف الفقهي في كيفية ممارسة هذه التجارة : هل تفرض عليها قيود خاصة ، لا توجد في سائر التجارات، من حيث التفاضل والتأجيل ، أم لا تفرض عليها أي قيود خاصة، ومن ثَمَّ فإنها كسائر التجارات ، تحكمها فقط الآداب التجارية العامة ؟
3 ـ بعض النصوص الشرعية في الربا
1 ـ قال تعالى : { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ، ذلك بأنهم قالوا : إنما البيع مثل الربا ، وأحل الله البيع وحرم الربا }. سورة البقرة 275.
2 ـ قال رسول الله r : "الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة (...) مِثْلاً بمثل ، سواءً بسواء ، يداً بيد . فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم ، إذا كان يداً بيد" (صحيح مسلم 4/98) .
3 ـ عن فضالة بن عبيد قال : اشتريت يوم خيبر قلادة ، باثني عشر ديناراً ، فيها ذهب وخرز ، ففصَّلتها ، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً . فذكرت ذلك للنبي r فقال : لا تباع حتى تُفَصَّل" (صحيح مسلم 4/101) .
4 ـ ما المقصود بالذهب والفضة في أحاديث الربا ؟
اختلف العلماء في ذلك :
1 ـ فبعضهم يرى أنهما مذكوران في الحديث لأنهما ذهب وفضة لا غير ، فلا تعليل عندهم ولا قياس ، أي لا يلحق بهما غيرهما ، إذْ لا علة لأجل أن يتم الإلحاق بموجبها .
2 ـ وبعضهم يرى أنهما مذكوران في الحديث باعتبارهما موزونين ، فالعلة عندهم هي الوزن ، فيلحق بهما كل موزون .
3 ـ وبعضهم يرى أنهما مذكوران في الحديث لأنهما أثمان (نقود)، فالعلة عندهم هي الثمنية (النقدية) ، ولكنها قاصرة عليهما ، فلا يلحق بهما غيرهما .
4 ـ وبعضهم يرى أنهما مذكوران في الحديث لأنهما أثمان ، فالعلة عندهم هي الثمنية، ولكنها متعدية ، فيلحق بهما كل ثمن ، كالنقود الورقية في عصرنا . وهذا المذهب هو الراجح، والمعتمد في هذا البحث .
ومذهب الثمنية ، سواء أكانت العلة قاصرة أم متعدية ، هو مذهب الشافعية ، والمالكية، وابن تيمية ، وابن القيم ، ورواية ثانية عن الإمام أحمد.
5 ـ التفاضل لأجل الصنعة
هل يجوز بيع ذهب بذهب أكثر منه، أو فضة بفضة أكثر منها، والزائد في مقابل الصياغة والصنعة - البيع معجل - ؟
قد يكون لدى أحد الأفراد أو التجار ذهب يريد مبادلته بذهب آخر، وبينهما فرق في الصنعة، فيجد ذهباً مصنوعاً لدى آخر ، تاجراً أو فرداً ، ليس لديه نقود يشتري بها الذهب الأقل صنعة، ثم يبيعه الذهب الأكثر صنعة ، لا سيما إذا كان المبلغ كبيراً ، كما في تجارة الجملة ، فهل يجوز أن تتم المبادلة مباشرة بين الذهبين ، مع زيادة لقاء فرق الصنعة ؟
أجاز ذلك بعض العلماء :
قال ابن رشد (ت595هـ) : " إلا معاوية فإنه كان يجيز التفاضل بين التِّبْرِ (غيرِ المصوغ) والمصوغ ، لمكان زيادة الصياغة ، وإلا ما روي عن مالك أنه سئل عن الرجل يأتي دار الضرب (ضرب النقود) بورقه (فضته)، فيعطيهم أجرة الضرب، ويأخذ منهم دنانير ودراهم، وزن ورقه أو دراهمه، فقال : إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة (رفاق السفر) ونحو ذلك، فأرجو أن لا يكون به بأس، وبه قال ابن القاسم من أصحابه".
وقال ابن قدامة (ت620هـ) : " إن قال لصائغ : صُغْ لي خاتماً وزنه درهم، وأعطيك مثل وزنه ، وأجرتَك درهماً ، فليس ذلك ببيع درهم بدرهمين . وقال أصحابنا : للصائغ أخذ الدرهمين ، أحدهما في مقابلة الخاتم ، والثاني أجرة له " .
وقال الشيخ عبدالله بن منيع ، عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، والقاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة : " بيع الذهب بالقيمة إذا كان مشغولاً ، أي فيه صنعة وصياغة . لا يخفى أن الذهب قد يباع بذهب ، وقد يباع بنقد آخر ، من فضة ، أو ورق نقدي ، أو فلوس ، فإذا كان الذهب المبيع مشغولاً ، كأن يكون حلياً ، فإن بيع بذهب فلا بأس أن يكون الثمن أكثر وزناً من وزن الذهب الحلي ، وتكون الزيادة في الوزن في مقابلة الصياغة والعمل" .
6 ـ نص ابن تيمية
قال ابن تيمية (ت728هـ) : " يجوز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه ، من غير اشتراط التماثل ، ويجعل الزائد في مقابل الصنعة ، سواء كان البيع حالاً أو مؤجلاً ، ما لم يُقصد كونها ثمناً " .
7 ـ نص ابن القيم
قال ابن القيم (ت751هـ) : " أما إن كانت الصياغة مباحة ، كخاتم الفضة ، وحلية النِّساء ، وما أبيح من حلية السلاح وغيرها ، فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها ، فإنه سفه وإضاعة للصنعة ، والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك . فالشريعة لا تأتي به ، ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه، لحاجة الناس إليه، فلم يبق إلا أن يقال : لا يجوز بيعها بجنسها ألبتة ، بل يبيعها بجنس آخر ، وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تنفيه الشريعة ، فإن أكثر الناس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك ، والبائع لا يسمح ببيعه ببُر وشعير وثياب ، وتكليف الاستصناع لكل من احتاج إليه إما متعذر أو متعسر ، والحيل باطلة في الشرع . وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر ، لشهوة الرطب ، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ ، الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه ، فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع. فلو لم يجز بيعه بالدراهم فسدت مصالح الناس ، والنصوص الواردة عن النبي r ليس فيها ما هو صريح في المنع ( ... ) .
يوضحه أن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع ، لا من جنس الأثمان (...) ، فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان ، كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع، وإن كانت من غير جنسها ، فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان ، وأعدت للتجارة، فلا محذور في بيعها بجنسها ، ولا يدخلها : " إما أن تقضي وإما أن تربي " إلا كما يدخل في سائر السلع ، إذا بيعت بالثمن المؤجل ، ولا ريب أن هذا قد يقع فيها . لكن لو سُدَّ على الناس ذلك لَسُدَّ عليهم باب الدَّين ، وتضرروا بذلك غاية الضرر (...) .
يوضحه أنه لا يُعرف عن أحد من الصحابة أنه نهى أن يباع الحلي إلا بغير جنسه أو بوزنه، والمنقول عنهم إنما هو في الصرف (...) .
وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة، بأكثر من وزنها، لأنَّ الحاجة تدعو إلى ذلك، وتحريم التفاضل إنما كان سداً للذريعة . فهذا محض القياس ومقتضى أصول الشرع، ولا تتم مصلحة الناس إلا به أو بالحيل ، والحيل باطلة في الشرع ، وغاية ما في ذلك جعل الزيادة في مقابلة الصياغة المباحة المتقومة بالأثمان في الغُصوب (جمع غَصْب) وغيرها (...).
وأين مفسدة بيع الحلية بجنسها ومقابلة الصياغة بحظها من الثمن إلى مفسدة الحيل الربوية التي هي أساس كل مفسدة ، وأصل كل بلية ؟
وإذا حصحص الحق فَلْيَقُلْ المتعصب الجاهل ما شاء ، .
فإن قيل : الصفات لا تقابل بالزيادة ، ولو قوبلت بها لجاز بيع الفضة الجيدة بأكثر منها من الرديئة ، وبيع التمر الجيد بأزيد منه من الرديء ، ولما أبطل الشارع ذلك عُلم أنه منع من مقابلة الصفات بالزيادة .
قيل : الفرق بين الصنعة التي هي أثر فعل الآدمي ، وتقابل بالأثمان، ويستحق عليها الأجرة، وبين الصفة التي هي مخلوقة لله ، لا أثر للعبد فيها ، ولا هي من صنعته ، فالشارع بحكمته وعدله منع من مقابلة هذه الصفة بزيادة ، إذ ذلك يفضي إلى نقض ما شرعه من المنع من التفاضل ، فإن التفاوت في هذه الأجناس ظاهر ، والعاقل لا يبيع جنساً بجنسه إلا لما هو بينهما من التفاوت ، فإن كانا متساويين من كل وجه لم يفعل ذلك . فلو جوز لهم مقابلة الصفات بالزيادة لم يحرم عليهم ربا الفضل ، وهذا بخلاف الصياغة التي جوز لهم المعاوضة عليها معه .
يوضحه أن المعاوضة إذا جازت على هذه الصياغة مفردة ، جازت عليها مضمومة إلى غير أصلها وجوهرها ، ولا فرق بينهما في ذلك .
يوضحه أن الشارع لا يقول لصاحب هذه الصياغة : بع هذا المصوغ بوزنه واخسر صياغتك . ولايقول له : لا تعمل هذه الصياغة واتركها ، ولا يقول له : تحيلْ على بيع المصوغ بأكثر من وزنه بأنواع الحيل ، ولم يقل قط: لاتبعه إلا بغير جنسه ، ولم يحرم على أحد أن يبيع شيئاً من الأشياء بجنسه" اهـ .
8 ـ إثبات صحة نسبة رأي ابن تيمية
يشكك بعضهم في فهم نص ابن القيم في إعلام الموقعين ، كما يشككون في صحة نسبة رأي ابن تيمية الذي نقله البعلي في الاختيارات الفقهية . فلدفع هذه التشكيكات ، أقدم هذه النصوص الستة التي لا تحتمل الأخذ والرد .
1- نص كتاب الاختيارات الفقهية :
"يجوز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه ، من غير اشتراط التماثل، ويجعل الزائد في مقابل الصنعة ، سواءً كان البيع حالاً أو مؤجلاً ، مالم يقصد كونها ثمناً" .
2- نص كتاب إعلام الموقعين:
"إن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع، لامن جنس الأثمان (000) ، فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان ، كما لايجري بين الأثمان وبين سائر السلع، وإن كانت من غير جنسها . فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان، وأعدت للتجارة، فلا محذور في بيعها بجنسها ، ولا يدخلها : "إما أن تقضي وإما أن تربي" إلا كما يدخل في سائر السلع ، إذا بيعت بالثمن المؤجل ، ولاريب أن هذا قد يقع فيها . لكن لو سُدَّ على الناس ذلك لَسُدَّ عليهم باب الدَّين ، وتضرروا بذلك غاية الضرر" .
3 ـ نص كتاب المقنع :
" إلا الشيخ تقي الدين ، رحمه الله تعالى ، جوز بيع المصوغ المباح بقيمته حالاً ، قلت : وعمل الناس عليه ، وكذا جوزه نَساءً ، ما لم يقصد كونه ثمناً " .
4 ـ نص كتاب الفروع :
" وجوز شيخنا بيع المصوغ المباح بقيمته حالاً ، وكذا نَساءً ، ما لم يقصد كونه ثمناً".
5 ـ نص كتاب الإنصاف :
" إلا أن الشيخ تقي الدين ، رحمه الله ، جوز بيع المصوغ المباح بقيمته حالاً، قلت : وعمل الناس عليه، وكذا جوزه نَساءً، ما لم يقصد كونها ثمناً".
6 ـ نص كتاب كشاف القناع :
" وكذا جوزه ، أي بيع خاتم بجنسه ، بقيمته نَساءً ، ما لم يقصد كونها ثمناً ، فإن قصد ذلك لم يجز للنسأ " ، والنسأ هو النَّساء .
نقل أحد المحكمين العلميين لبحثي هذا رأياً آخر لابن تيمية . فقد سئل: "عن امرأة باعت أسورة ذهب ، بثمن معين ، إلى أجل معين ، هل يجوز أم لا ؟ فأجاب : إذا بيعت بذهب أو فضة إلى أجل لم يجز ذلك باتفاق الأئمة ، بل يجب رد الأسورة إن كانت باقية ، أو رد بدلها إن كانت فائتة " .
كما سئل : " هل يجوز بيع الحياصة بنسيئة ، بزائد على ثمنها ؟ فأجاب : أما الحياصة التي فيها ذهب أو فضة ، فلا تباع إلى أجل بفضة أو ذهب ، لكن تباع بعرض إلى أجل " .
يبدو لي أن هذا الرأي لابن تيمية هو رأيه القديم المنسوخ ، وهو فيه ناقل لآراء العلماء، وأن رأيه الآخر هو رأيه الشخصي المعتمد ، كما أظهرته كتب المذهب ، وكما هو واضح من رأي تلميذه ابن القيم . وله وجه بينه ابن تيمية نفسه ، بأن الحلي ليست أثماناً ، بل هي عروض ، كما أكد ذلك أيضاً تلميذه ابن القيم ، بمزيد من الشرح .
واعترض أحد المحكمين قائلاً : "إن تعليل النهي عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة بالثمنية ، إن جرى استعمالها كسلع يحل في بيع أحدهما بجنسه ، وبغير جنسه ، وبالنقود الورقية : النَّساء والتفاضل ، كسائر الأموال غير الربوية ، إنما هو تعليل بعلة تعود على أصلها بالإبطال، وذلك ممتنع في باب تعليل الأحكام " .
إن الأصل هنا هو الذهب والفضة، والعلة هي الثمنية ، فلا أدري كيف تعود هذه العلة على أصلها بالإبطال ؟ إذا عللنا الذهب بالثمنية ، فليس من المعقول أن نستمر في القول بأن الذهب ذهب ، بل إن الذهب ثمن ، والقول بأن الذهب ثمن ليس من شأنه العود على النص أو الأصل بالإبطال .
قالت هيئة تحرير المجلة في خطابها إليَّ : " لا يخفى عليكم أن الأخذ بقول ابن تيمية المخالف للجمهور في هذه المسألة قد يتخذه بعض الناس سبيلاً للتملص من تحريم ربا الدَّين . ذلك أن من حلي الذهب اليوم ما صنعته بسيطة تقرب نسبتها من 5% من قيمة الذهب الخالص في الحلية . فإن أجيز شراء الحلي نَساءً فقد يتخذ ذلك ذريعة لشراء الذهب بثمن مؤجل ، مع تحمل كلفة إضافية تقارب 5%" .
يعني أنهم قد يرون من المناسب التحريم سداً للذريعة . جواب هذا أن سد الذرائع تختلف فيه المذاهب ، فبعضها موسع (المالكية والحنابلة)، وبعضها مضيق (الحنفية والشافعية) . وفي كل الأحوال ، لا يمكن القضاء على الذرائع والحيل قضاءً مبرماً ، لكن مما يقلل من هذا في ظل الإسلام أن من يأتي الحيلة قد ينجو قضاءً ، ولكنه لا ينجو ديانة من الحساب عن الإثم الباطن . ولا يحسن المبالغة في سد الذرائع مخافة تعويق الأنشطة الاقتصادية والمعاملات التجارية . فقد يتظاهر الناس بالبيع ويبطنون الربا ، ولكن حيلتهم هذه لا يجب أن تؤدي إلى تحريم البيع .
وقد حاول بعض المعاصرين تحريم البيع المؤجل ، بزيادة في الثمن لأجل الأجل ، كي لا يتخذ هذا البيع ذريعة إلى الحيل الربوية . ولكن هذه المحاولة ليست مسددة ، لأنها بلا سند شرعي، بل إنها تصادم كل الأسانيد الشرعية.
9 ـ التفاضل لأجل الفصوص (دون تأجيل)
هل يجوز بيع ذهب بذهب أكثر منه ، أو فضة بفضة أكثر منها ، والزائد في مقابل الفصوص (الخرز) - البيع معجل- ؟
قد يكون لدى أحد الأفراد أو التجار ذهب يريد مبادلته بذهب آخر، فيه فصوص أو خرز، يجده لدى تاجر أو فرد ، وليس لدى المشتري نقود يشتري بها ثم يبيع . وقد تكون المبادلة ذات مبلغ كبير ، كما في المبادلة بين التجار ، فهل يجوز أن تتم المبادلة مباشرة بين الذهبين ، مع زيادة لقاء الفصوص ؟
1 ـ أجاز ذلك بعض العلماء :
قال الطحاوي (ت321هـ) : " إن كانت القلادة يحيط العلم بوزن ما فيها من الذهب، ويعلم أنه أقل من الذهب الذي بيعت به ، أو لا يحيط العلم بوزنه ، إلا أنه يعلم في الحقيقة (أنه) أقل من الثمن الذي بيعت به القلادة ، وهو ذهب ، فالبيع جائز . وذلك أنه يكون ذهبها بمثل وزنه من الذهب الثمن ، ويكون ما فيها من الخرز بما بقي من الثمن " .
وقال أيضاً : " الذهب مبيع بوزنه من الذهب الثمن ، وما بقي مبيع بما بقي من الثمن. وهذا قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، رحمة الله عليهم أجمعين" .
وذكر بعد ذلك أن هذا مذهب ابن عباس من الصحابة ، ومجاهد ، والحسن ، وإبراهيم ، والشعبي ، من التابعين .
وقال ابن رشد (ت595هـ) : "اختلف العلماء في السيف والمصحف المحلَّى ، يباع بالفضة ، وفيه حلية فضة ، أو بالذهب ، وفيه حلية ذهب ، فقال الشافعي : لا يجوز ذلك ، لجهل المماثلة المشترطة في بيع الفضة بالفضة في ذلك ، والذهب بالذهب . وقال مالك : إن كان قيمة ما فيه من الذهب أو الفضة الثلث فأقل جاز بيعه (...) وكأنه رأى أنه إذا كانت الفضة قليلة لم تكن مقصودة في البيع ، وصارت كأنها هبة . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا بأس ببيع السيف المحلَّى بالفضة ، إذا كانت الفضة أكثر من الفضة التي في السيف ، وكذلك الأمر في بيع السيف المحلَّى بالذهب ، لأنهم رأوا أن الفضة التي فيه ، أو الذهب ، يقابل مِثْله من الذهب أو الفضة المشتراة به ، ويبقى الفضل قيمة السيف " .
وقال الشيخ عبدالله بن منيع :
"حكم المبادلة بين مقدار من الذهب ومقدار أقل منه مضموماً إليه جنس آخر .
الحكم في ذلك فيما يظهر لي الجواز ، لأنَّ الزيادة في أحد العوضين مقابلة بالجنس الآخر في العوض الثاني ، أشبه الحكم بجواز بيع حلي الذهب بأكثر من وزنه ذهباً ، حيث إن الزيادة في الثمن وزناً هي قيمة الصنعة في الحلي" .
وفي قرار لمجمع الفقه الإسلامي بجدة : "تجوز المبادلة بين مقدار من الذهب ومقدار أقل منه مضموم إليه جنس آخر ، وذلك على اعتبار أن الزيادة في أحد العوضين مقابلة بالجنس الآخر في العوض الثاني " .
2 ـ التفاضل لأجل الفصوص ، عندما يؤدي فصلها إلى تخريب الصنعة، حكمه حكم التفاضل لأجل الصنعة ، كما ذكر الشيخ ابن منيع . فضم الفصوص جزء من الصنعة . ومع ذلك فقد نقلنا نصوصاً فقهية خاصة بكل منهما ، زيادة في الإيضاح .
10 ـ فصل الفصوص والخرز
1 ـ قال ابن جزي (ت741هـ) : "إذا كان الذهب والفضة سلعة لا يمكن نقضه منها ، كالسيف والمصحف المحلَّى ، فيجوز أن يباع دون أن ينقض ، خلافاً للظاهرية (...) مثل أن يكون محلَّى بالفضة ، فيباع بفضة ، فلا يجوز ذلك إلا بشرطين : أحدهما أن تكون الحلية تبعاً ، وهي أن تكون ثلث القيمة فما دون ذلك ، وقيل : ثلث الوزن ، وأن يكون يداً بيد ، خلافاً لسحنون " .
وقال الشوكاني (ت1250هـ) : " الحديث استُدِلَّ به على أنه لا يجوز بيع الذهب مع غيره بذهب حتى يفصل من ذلك الغير ، ويميز عنه ، ليعرف مقدار الذهب المتصل بغيره ، ومثله الفضة مع غيرها بفضة (...) . وكذلك في مسألة القِلادة يتعذر الوقوف على التساوي من دون فصل ، ولا يكفي مجرد الفصل، بل لا بد من معرفة مقدار المفصول والمقابل له من جنسه" .
وإلى العمل بظاهر الحديث ذهب عمر بن الخطاب، وجماعة من السلف، والشافعي، وأحمد، وإسحاق ، ومحمد بن الحكم المالكي .
وقالت الحنفية والثوري والحسن بن صالح والعترة : إنه يجوز إذا كان الذهب المنفرد أكثر من الذي في القِلادة ونحوها ، لا مثله ولا دونه .
وقال مالك : يجوز إذا كان الذهب تابعاً لغيره ، بأن يكون الثلث فما دون .
وقال حماد بن أبي سليمان : إنه يجوز بيع الذهب مع غيره بالذهب مطلقاً ، سواء كان المنفصل مثل المتصل أو أقل أو أكثر .
واعتذرت الحنفية ومن قال بقولهم عن الحديث بأن الذهب كان أكثر من المنفصل ، واستدلوا بقوله : "ففصَّلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً " .
2 ـ على أن الفصوص إذا كانت مما يسهل نزعها وإعادتها ، دون تخريب للصنعة . فيجب مبادلة الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، على الأصل في هذا الباب، أي وزناً بوزن، مِثْلاً بمثل ، وتدفع قيمة الفصوص والصنعة على حدة .
قال الشافعي (ت204هـ) : "كل صنف من هذه خلطه غيره مما يقدر على تمييزه منه، لم يجز بعضه ببعض إلا خالصاً مما يخلطه" .
فقد يلجأ بعض التجار إلى ضم شيء آخر ، للتحايل على التماثل، والوصول إلى التفاضل.
قال ابن تيمية (ت728هـ) : " أن يكون المقصود بيع ربوي بجنسه متفاضلاً ، ويضم إلى الأقل غير الجنس حيلةً (...) فإن الصواب في مثل هذا القول بالتحريم ، كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد ، وإلا فلا يعجز أحد في ربا الفضل أن يضم إلى القليل شيئاً من هذا " .
3 ـ في الحالات التي يطلب فيها الفصل لا يشترط الفصل الحسي إذا عُلم ، بطريقة من الطرق ، مقدار المال الربوي (الذهب ، الفضة) في الحلي الذهبية أو الفضية المختلطة بغيرها .
وهذا المبدأ يفيد عند مبادلة ذهب بذهب من عيارين مختلفين . فعيار الذهب مثبت ، في عصرنا هذا ، على الذهب نفسه ، وموثوق من قبل المتعاملين ، لأنه خاضع لرقابة الدولة ، فإذا عرف وزن كل قطعة من القطعتين أمكن تحقيق التساوي بينهما . فإن 1000غرام عيار 12=500 غرام عيار 24 ، بافتراض أن قيمة الشوائب الموجودة في القطعة الكبيرة مهدرة .
وتتم رقابة الدولة عن طريق نقابة الصياغ (إذا وجدت)، والغرفة التجارية ، وشيخ الصاغة. وأي غشٍ في العيار يعرض صاحبه للعقوبة : الغرامة ، الحبس ، الإقفال الموقت ، الطرد من المهنة . وإنما يجب الحذر من العيار ، ومن الأختام المزورة ، عند التعامل مع باعة متجولين غير مرخص لهم بممارسة المهنة . فعندئذ لا بد من إجراء فحص أو اختبار للعيار . وهذا ما يفعله التجار المرخص لهم عند التعامل مع هؤلاء الباعة المذكورين .
11 ـ تسديد قيمة التفاضل في الصنعة والفصوص والوزن
1 ـ بينا في الفقرة الخامسة أن التفاضل لأجل الصنعة يمكن أن يكون فرقاً في الوزن بين الذهب بالذهب ، أو الفضة بالفضة .
2 ـ لكن هذا لا يمنع أن تجري المبادلة بين الذهب والذهب، أو الفضة والفضة، وزناً بوزن، مِثْلاً بمثل ، وفرق الصنعة تسدد قيمته بغير الذهب (أو الفضة ) ، كأن تسدد بالنقود .
قال المودودي : " لا بد أن نعطيه (الصائغ) الأجرة ، إما بصورة الفضة، أو بصورة الأوراق النقدية " .
وقال الشيخ ابن منيع : " بيع الذهب بالقيمة إذا كان مشغولاً، أي فيه صنعة وصياغة. لا يخفى أن الذهب قد يباع بذهب ، وقد يباع بنقد آخر، من فضة، أو ورق نقدي، أو فلوس".
3 ـ وكما يجوز تسديد فرق الصنعة بالنقود، يجوز كذلك أن يسدد بالنقود ثمن الفصوص، أو فرق الوزن في الذهب أو الفضة ، عندما تكون المبادلة ذهباً بذهب بينهما تفاوت في الوزن ، أو فضة بفضة بينهما تفاوت في الوزن .
12 ـ هل يجب التفصيل في الثمن ؟
1 ـ في مبادلة الذهب بالذهب ، أو الفضة بالفضة ، إذا كان هناك زيادة صنعة أو فصوص، ذكر العلماء (المجيزون) جواز التفاضل ، إذا كان الذهب المنفصل (أو غير المصوغ) أكثر من الذهب المتصل (أو المصوغ) . وتكون الزيادة لقاء الصنعة أو الفصوص .
2 ـ إن العلماء الذين أخرجوا الحلي من الربويات ، وأجازوا بذلك التفاضل والنَّساء ، ينبني على مذهبهم أن المبادلة لا يجب أن تتم وزناً بوزن ، ولا مِثْلاً بمثل ، ولا يداً بيد .
وبهذا يجوز أن يباع بالنقود حلي ذهب أو فضة ، فيها صنعة وفصوص وتفاضل في الوزن، دون بيان أن هذا الجزء من الثمن يقابل هذا المقدار من الحلي، وهذا الجزء من الثمن يقابل الصنعة، وهذا الجزء يقابل الفصوص . بل يمكن البيع بثمن إجمالي واحد، يغطي الذهب والصنعة والفصوص، باعتبارها جميعاً سلعة واحدة لا تتجزأ ، وذلك دونما تفصيل .
3 ـ وعلى مذهب من يجيز التفاضل، دون النَّساء ، في الذهب بالذهب، والفضة بالفضة ، والزيادة في مقابل الصنعة أو الفصوص ، يكون التفصيل في الثمن مهماً ، من حيث بيان أن هناك زيادة تقابل الصنعة أو الفصوص .
وعلى مذهب من يرى معلومية هذه المبادلة يجب أن يعلم أن هذا المقدار من الذهب مساوٍ لهذا المقدار من الذهب ، وأن هذه الزيادة المعلومة تقابل هذه الصنعة أو الفصوص المشاهدة . ذلك لأن القاعدة هنا أن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل .
4 ـ وكذلك على مذهب من لا يجيز التفاضل، يجب التفصيل في الثمن، إذْ تجب المبادلة وزناً بوزن ، والفصوص يكون لها ثمن منفصل معلوم .
5 ـ لكن إذا كانت المبادلة حلياً بنقود ، فالتفصيل في الثمن لا يجب عند أحد ، لأن التفاضل جائز عندئذٍ عند الجميع، لاختلاف الصنفين (العوضين).
6 ـ وهذا لا يمنع من أن يتفق المتعاقدان على التفصيل ، إذا شاءا ، بأن يطلبه المشتري ، ويجيبه البائع إلى طلبه .
13 ـ حلي جديد بحلي قديم
هذه المسألة هي أحد تطبيقات المسألة المطروحة في الفقرة الخامسة . فالتبادل هنا ذهب جديد بذهب قديم ، وهناك جديد بجديد ، بينهما فرق في الصنعة .
1 ـ قال الشيخ ابن منيع : " هل يجوز لتاجر الحلي ، حينما يعرض عليه أحد الناس حلياً قديماً ، ويبدي له رغبته في شرائه حلياً جديداً ، هل يجوز لهذا التاجر أن يشترط عليه في شرائه الحلي القديم أن يشتري منه حلياً جديداً ؟
هذه المسألة بحثت في هيئة كبار العلماء في المملكة ، وصدر القول بمنعها ، باعتبارها بيعتين في بيعة ، إلا أن هذا القول لم يكن محل إجماع .
ونظراً إلى أن هذا النوع من البيع لا يشتمل على غَرر ، ولا على جهالة، ولا مخالفة في الصرف ، ولم يكن في معنى بيعتين في بيعة ، فلم يظهر لي وجه للقول بمنعه . وقد قال بجواز مثل هذا الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله ، حيث قال : الصحيح جواز قوله : بعتك داري بكذا على أن تبيعني عبدك أو نحوه بكذا ، ولا يدخل تحت نهيه r عن بيعتين في بيعة ، لأنَّ المراد أن يعقد على شيء واحد ، في وقت واحد ، عقدين ، وذلك كمسائل العِينة وما أشبهها (...) .
وأما تفسيره بأن تقول : بعتك هذا البعير مثلاً بمائة على أن تبيعني هذه الشاة بعشرة ، فالمذهب إدخالها في هذا الحديث ، والقول الآخر في المذهب عدم إدخالها ، وأن لا يتناولها النهي ، لا بلفظه ولا بمعناه ، ولا محظور في ذلك ، وهذا الذي نراه ونعتقده" .
2 ـ هذه المعاملة جائزة على رأي الشيخين ابن تيمية وابن القيم وآخرين، لأن مآل البيعتين (حلي قديم بنقود ، حلي جديد بنقود) بيعة واحدة (حلي قديم بحلي جديد مع التفاضل لأجل الصنعة والصياغة) .
14 ـ البيع بالدَّين أو بالتقسيط
هل يجوز بيع ذهب بذهب أكثر منه ، أو فضة بفضة أكثر منها ، والزائد في مقابل الصياغة والصنعة والفصوص (الخرز) - البيع مؤجل - ؟
من المعلوم شرعاً أن القرض لا يجوز في الإسلام إلا لضرورة ، أو لحاجة أصلية ، لأنه نوع من الصدقة ، إذ الفائدة (الزيادة في مقابل الزمن) عليه ممنوعة ، ففيه إذن مِنَّةٌ على المقترض، أما البيع المؤجل فيجوز في الإسلام، في حالات الضرورة وغيرها ، لأنَّ الزيادة فيه في مقابل الزمن جائزة ، فليس فيه إذن مِنَّةٌ على المدين .
ومن المشاهد أن المستهلكين والتجار يقبلون على البيع المؤجل ، وبيع التقسيط ، برغم المخاطر التي تنشأ من إمكان عدم السداد ، وذلك لأنَّ البيوع المؤجلة تزيد زيادة محسوسة في مبيعات التجار وإيراداتهم وأرباحهم ، ولذلك فإن سد باب البيع المؤجل أمامهم يلحق بهم ضرراً غير يسير . وقد تنبه ابن القيم إلى هذا منذ ما يقرب من سبعة قرون ، إذْ قال : " لو سُدَّ على الناس ذلك (باب البيع المؤجل) لَسُدَّ عليهم باب الدَّين ، وتضرروا بذلك غاية الضرر" .
وقد علمت أن الآجال التي يتعامل بها تجار حلي الذهب عندنا تترواح بين 20 يوماً و3 أشهر . وهم يبيعون لأجل، ويشترون لأجل ، ويحاولون التوفيق بين آجال البيع وآجال الشراء، فلو باعوا لأجل واشتروا نقداً لوقعوا في الإعسار أو تجميد رأس المال . ثم إنهم يحتاجون للأجل في الاستيراد حتى يتمكنوا من السداد بحوالة أو باعتماد مصرفي ، لما سبق أن اشتروه بالهاتف أو بالفاكس ، من موِّرِديهم .
نعم حرم الإسلام التأجيل (النَّساء) في حالة المبادلات المشبوهة التي تعقد باسم البيع ، ويراد منها القرض الربوي ، فهل ينطبق هذا على مبادلات حلي الذهب والفضة ، ومن ثم فلا يجوز التأجيل ، أم لا ينطبق فيجوز ؟
أجاز ذلك ابن تيمية ، وابن القيم (راجع نص كل منهما في الفقرتين 6 ، 7) . وتعليل الجواز عندهما أن حلي الذهب والفضة ، إذا ما صنعت وصيغت ، لم تعد أثماناً (نقوداً) ، بل تصير سلعة كسائر السلع ، وعندئذٍ فلا ربا في مبادلات حلي الذهب والفضة بالذهب والفضة وسائر الأثمان ، فيمكن أن تجري هذه المبادلات بالتفاضل والنَّساء .
ويبدو أن هذا هو مذهب معاوية والحسن ، قال الطحاوي (321هـ): "دلَّ ذلك على أن ما كان من إنكار عبادة t على معاوية، هو بيع الذهب بالذهب ، إلى أجل " .
وفي مصنف عبدالرزاق : " عن الحسن (...) في السيف فيه الحلية ، والمنطقة ، والخاتم، ثم نبتاعه بأكثر ، أو أقل ، أو نسيئة ، فلم ير به بأساً " .
15 ـ حلي الذهب والفضة : هل هي سلع أم أثمان ؟
وهل خرجت بالصناعة عن الأموال الربوية ؟
يرى بعض العلماء أن الربوي ، بالصناعة ، يخرج عن كونه ربوياً ، فالذهب والفضة يصبحان بالصياغة سلعاً ، ولا يبقيان أثماناً (نقوداً) .
قال ابن رشد (ت595هـ) : " اختلفوا من هذا الباب فيما تدخله الصنعة ، مما أصله منع الربا فيه ، مثل الخبز بالخبز ، فقال أبو حنيفة : لا بأس ببيع ذلك متفاضلاً ومتماثلاً ، لأنه قد خرج بالصنعة عن الجنس الذي فيه الربا " ، وهو البُر .
وقال ابن مفلح (ت763هـ) : " إنما خرج عن القوت بالصنعة (...) فليس بربوي".
وإلى ذلك ذهب أيضاً كل من ابن تيمية ، وابن القيم . قال ابن القيم (ت751هـ) : "إن الحلية المباحة صارت - بالصنعة المباحة - من جنس الثياب والسلع ، لا من جنس الأثمان" .
16 ـ تحليل مذهب الشيخين : ابن تيمية وابن القيم
1 ـ قد يبدو لأول وهلة أن مذهب الشيخين ابن تيمية وابن القيم قد جاء على نقلتين : النقلة الأولى إجازة التفاضل لأجل الصنعة ، والنقلة الثانية إجازة النَّساء (الدَّين) . ومعهما في النقلة الأولى بعض السلف : معاوية ، والحسن ، وإبراهيم ، والشعبي . وليس معهما في النقلة الثانية إلا معاوية والحسن .
2 ـ والحق أن مذهب الشيخين ينطوي على نقلة واحدة . فالصنعة عندهما لم تُحِل التفاضل فقط ، وإنما أحلت التفاضل والنَّساء معاً ، لأن الصنعة نقلت الذهب والفضة من مال ربوي (ثمن، نقد) إلى مال غير ربوي (سلعة، عرض) . فالذهب النقدي بالذهب المصوغ ليس مبادلة بين متجانسين ، بل بين مختلفين ، واختلافهما ليس كاختلاف الذهب عن الفضة، حتى يجوز التفاضل بينهما ، ولا يجوز النَّساء ، إنما هو اختلاف كاختلاف الذهب عن البُر ، حتى جاز التفاضل بينهما والنَّساء معاً .
3 ـ إن ربا البيوع (الفضل ، والنَّساء ) قد حرم سداً للذريعة الموصلة إلى ربا القروض . لكن يبدو أن الصنعة في الحلي قد سَدَّت هذه الذريعة ، فلم تعد ثمة حاجة إلى سدها بمنع الفضل والنَّساء .
4 ـ إن مذهب الشيخين ابن تيمية وابن القيم يَحل ثلاث مشكلات لتجار حلي الذهب والفضة في آن واحد : مشكلة رعاية الصنعة ، ومشكلة البيع المؤجل ، ومشكلة فصل الفصوص ، ذلك لأن جواز النَّساء أصعب من جواز الفضل ، ومتى جاز النَّساء جاز معه ضمناً كل هذا .
17 ـ فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد
1 ـ إن اختلاف الأصناف عند العلماء اختلافان : اختلاف بين صنفين في حدود الفئة الواحدة (ذهب ، فضة) ، واختلاف بين صنفين من فئتين مختلفتين (ذهب، بُر) . فهم يقسمون الأصناف الستة الواردة في الحديث إلى فئتين : فئة الذهب والفضة ، وفئة الأصناف الأربعة الباقية (البُر، الشعير، التمر ، الملح) . ويرتبون على هذا أن الذهب بالذهب يوجب التماثل والتقابض، والذهب بالفضة يوجب التقابض دون التماثل (يجوز التفاضل)، والذهب بالبُر لا يوجب التماثل ولا التقابض (يجوز التفاضل والنَّساء) .
2 ـ فعلى رأي هؤلاء العلماء تقتضي هذه العبارة : "إذا كان يداً بيد" أن تكون المبادلة بين صنفين في نطاق الفئة الواحدة (مثل ذهب بفضة) .
3 ـ هذا مع أن عبارة اختلاف الأصناف لا تفرق بين اختلافين ، إنما ظاهرها الاختلاف بين أي صنف وصنف آخر من الأصناف الستة ، بدون تقسيم إلى فئتين .
4 ـ إن هذه العبارة يفهم معناها ، إذا كانت المبادلة ذهباً بفضة ، من أحاديث أخرى ، كأحاديث الصرف ، كقوله r : " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواءً بسواء ، والفضة بالفضة إلا سواءً بسواءٍ، وبيعوا الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، كيف شئتم" (صحيح البخاري 3/97) .
ففي هذا الحديث لا توجد عبارة "يداً بيد" لا في آخر الحديث، ولا في أي موضع آخر منه، فقد يفهم من عبارة : "كيف شئتم " أي بالتفاضل والنَّساء معاً .
لكن هناك أحاديث أخرى تجعل فهمنا مقصوراً هنا على التفاضل ، دون النَّساء : " نهى رسول الله r عن بيع الذهب بالوَرِق (الفضة المسكوكة) دَيناً " (صحيح البخاري 3/98).
قال البراء بن عازب وزيد بن أرقم : كنا تاجرين على عهد رسول الله r فسألنا رسول الله r عن الصرف ، فقال : " إن كان يداً بيد فلا بأس ، وإن كان نَساءً فلا يصلح" (صحيح البخاري 3/72) .
5 ـ وبهذا يثبت أن الذهب بالذهب لا يجوز فيه التفاضل ولا النَّساء ، والذهب بالفضة يجوز فيه التفاضل دون النَّساء . أما الذهب بالبُر فيجوز فيه التفاضل والنَّساء ، وهذا بدلالة أحاديث البيع المؤجل (بيع السلم ، وبيع النسيئة) .
6 ـ وبناءً على هذا ، فإن الصنعة ، عند ابن تيمية وابن القيم ، قد جعلت الاختلاف بين الذهب النقدي والذهب المصوغ ، لا كالاختلاف بين الذهب والفضة ، بل أكثر ، كالاختلاف بين الذهب والبُر ، إذْ لو كان الاختلاف كالاختلاف بين الذهب والفضة لجاز الفضل فقط ، ولما جاز النَّساء ، وهما أي الشيخان يجيزان النَّساء أيضاً .
18 ـ تضاؤل الدور النقدي للذهب والفضة
1 ـ الذهب (دنانير الذهب) والفضة (دراهم الفضة) في عصر النبي r كانا هما النقدين السائدين . وإذا قيل : النقدان ، فإنما يراد بهما : الذهب والفضة .
2 ـ بعض الفقهاء ذهبوا لأجل ذلك إلى أن الذهب والفضة هما النقود الشرعية ، ولا نقد سواهما . واعتبروهما نقوداً بالخلقة .
3 ـ فقهاء آخرون لا يرون أن النقود مقصورة على الذهب والفضة ، بل يمكن أن تكون شيئاً آخر ، فالذهب والفضة عند هؤلاء الفقهاء إنما هي نقود بالاصطلاح ، لا بالخلقة .
قال عمر بن الخطاب t : هممت أن اجعل الدراهم من جلود الإبل، فقيل له : إذن لا بعير ، فأمسك .
وقال ابن تيمية (ت728هـ) : " أما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح ، وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به ، بل الغرض أن يكون معياراً لما يتعاملون به ، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها ، بل هي وسيلة إلى التعامل بها ، ولهذا كانت أثماناً (نقوداً) (...) . والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض ، لا بمادتها ولا بصورتها (نقوشها) يحصل بها المقصود كيفما كانت" .
4 ـ وكانت نقود الذهب والفضة في أول أمرها هي النقود الرئيسة في البلدان الإسلامية ، أما الفلوس فكانت تستخدم إلى جانبها في الخسيس من الأشياء دون النفيس ، أي كانت نقوداً مساعدة . ثم صارت هذه الفلوس هي النقود الرئيسة الغالبة . وصار الفقهاء يتحدثون عن نقود ذهبية أو فضية : خالصة، أو مرجوحة الغش، أو راجحة الغش (مغشوشة)، بحسب تزايد نسبة خلط الذهب أو الفضة بالمعادن الأخرى الخسيسة . وعندئذٍ لم تعد للنقود قيمة ذاتية ، بل صارت قيمتها ائتمانية ، أي قيمتها الاسمية أو النقدية أعلى بكثير من قيمتها الذاتية أو المعدنية .
5 ـ وفي العصر الحديث انتقلت النقود الرئيسة من النقود المعدنية إلى النقود الورقية . وكانت - هذه النقود الورقية - في بداية الأمر نقوداً نائبة (عن الذهب والفضة) ، بغرض سهولة الحمل، وحفظ الذهب والفضة من التداول والتآكل والسرقة . ثم تحولت النقود الورقية إلى نقود وثيقة ، أي تحمل تعهداً بتحويلها إلى ذهب ، عند الطلب ، ثم صارت إلزامية غير قابلة للتحويل إلى ذهب، بالرغم مما ترتب على ذلك من تضخم نقدي (تدهور مستمر في القوة الشرائية للنقود).
واقتصرت النقود الفضية (المخلوطة) على النقود المساعدة القليلة الأهمية لاستعمالها في المحقرات .
وفي البلدان المتقدمة اقتصادياً، شاعت نقود الودائع (النقود الكتابية) التي تمثلها الشيكات، وطغت على النقود الورقية التي صارت بدورها غطاءً (احتياطياً نقدياً) ، لدى المصارف التجارية، لخلق نقود الودائع . وأخذت هذه المصارف تنهض بدور نقدي ، في خلق النقود الكتابية، يفوق الدور الذي كانت تنهض به دُور السك في إصدار النقود المعدنية .
وعلى الصعيد العالمي أُنشئت في عام 1969م حقوق السحب الخاصة، وهي أيضاًنقود كتابية دولية ، لا وجود لها في الواقع إلا وجوداً محاسبياً دفترياً . وكل حق من هذه الحقوق عبارة عن سلة (مجموعة) من العُمَل (العُملات) الدولية، بأوزان نسبية معينة ، في مقدمتها : الدولار الأمريكي .
6 ـ على أن الذهب لا يزال مستخدماً في التغطية النقدية لدى المصارف المركزية في العالم ، إلى جانب العملات الصعبة ، وأذونات الحكومة ، وبعض الأوراق المالية والتجارية . ولكن مع تخلي العالم عن قاعدة الذهب ، تناقصت الأهمية النسبية للغطاء الذهبي ، وصار المصرف المركزي يصدر النقود، في العديد من البلدان ، بحسب احتياجات النشاط الاقتصادي، دون تقيد بالرصيد الذهبي .
7 ـ المهم في هذا أن الدور النقدي للذهب والفضة قد تضاءل كثيراً. وغلبت عليهما السلعية لا الثمنية (النقدية) . وليس من السهل أن يعود العالم إلى تنقيد الذهب، كما كان.
8 ـ وهذا البيان مفيد في نطاق المذاهب الفقهية التي عللت الذهب والفضة ، الواردين في أحاديث الربا ، بأنهما أثمان (نقود) .
ومع ذلك ، فإن المتعاملين إذا قصدوا بهما اتخاذهما أثماناً ، فإننا نرى أن تطبق عليهم أحكام الربا ، من حيث الفضل والنَّساء ، وهو ما ذهبنا إليه ، كما سيتبين من الفقرة التالية .
19 ـ إذا قصد بالحلي الأثمان
1 ـ إذا كان القصد من الحلي هو اتخاذها ثمناً (نقداً) ، بقصد الادخار والحفاظ على القوة الشرائية ، فإن مبادلة الذهب بالذهب عندئذٍ ، وكذلك الفضة بالفضة ، تعود إلى أصلها في هذا الباب ، فيحكمها التماثل والتقابض ، ولا يجوز فيها التفاضل ولا النَّساء . ولا ينطبق عليها حينئذٍ رأي ابن تيمية ، ولا ابن القيم .
قال ابن تيمية (ت728هـ) : "يجوز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه ، من غير اشتراط التماثل ، ويجعل الزائد في مقابل الصنعة ، سواء كان البيع حالاً أو مؤجلاً ، ما لم يقصد كونها ثمناً" .
وقال ابن القيم (ت751هـ ) : "إن هذه (الحلية) بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان ، وأعدت للتجارة" .
2 ـ ويتضح هذا أكثر في الجنيهات والسبائك (الذهبية) ، فالجنيهات (وما في حكمها من الوحدات النقدية) اسم لوحدة نقدية ، وتقل فيها الصنعة . ثم إن نقوش الوحدات النقدية، الذهبية والفضية ، مهدرة في التبادل . فالقاعدة فيها أن يتم هذا التبادل مِثْلاً بمثل ، يداً بيد ، ولا اعتبار للنقوش وصناعة الضرب ، بل تِبْرها وعينُها سواء . والتبر هو الذهب أو الفضة غير المضروبين نقوداً ، بخلاف العَيْن (النقد) .
قال ابن القيم : " إن السكة (النقود المسكوكة) لا تتقوم فيها الصناعة للمصلحة العامة المقصودة منها . فإن السلطان يضربها لمصلحة الناس العامة (...) . فإن القصد بها أن تكون معياراً للناس، لا يتجرون فيها (...) . والسكة غير مقابلة بالزيادة في العرف، ولو قوبلت بالزيادة فسدت المعاملة، وانتقضت المصلحة التي ضربت لأجلها، واتخذها الناس سلعة ، واحتاجت إلى التقويم بغيرها . ولهذا قام الدرهم مقام الدرهم من كل وجه . وإذا أخذ الرجل الدراهم ردَّ نظيرها. وليس المصوغ كذلك" .
وهذه التفرقة بين صناعة الحلي وصناعة ضرب النقود تفرقة واردة ، ولها وجه قوي ، وصناعة الضرب مهدرة ، في صرف العملات ، حتى عند رجال الاقتصاد الوضعي .
3 ـ تعرضنا لهذا الفصل لأن تجار الذهب يتعاملون بأصناف مختلفة لا تقتصر على الأساور والخواتم والحلق والتعاليق (القلائد) ، بل تمتد كذلك إلى الجنيهات والسبائك .
4 ـ كل مبادلة آجلة بين متجانسين ، مثل سبائك ذهبية بسبائك ذهبية، أو جنيهات ذهبية بجنيهات ذهبية ، أو بين متقاربين ، كسبائك بجنيهات ، قصد بها القرض الربوي ، تحت ستار البيع المؤجل ، يأثم صاحبها ، ويعد متحايلاً ومرتكباً لكبيرة الربا المحرم .
5 ـ طلبت مني هيئة تحرير المجلة أن أتطرق إلى : أ ـ المعاني الأخرى المحتملة لقول ابن تيمية : "ما لم يقصد كونها ثمناً" ، وقالت : "لعل أول ما ينصرف إليه الذهن في اتخاذ الحلي ثمناً هو الاستدانة بواسطتها ، من خلال شرائها بثمن مؤجل ، عوضاً عن الاستدانة الصريحة بالنقود" .
ب ـ جدوى هذا القيد من الناحية العملية، إذ المقاصد عادة مستكنة في نفوس المتعاملين ، ويتعذر ضبط المعاملات المالية على أساسها ، مالم ينصب لتلك المقاصد الخفية قرائن خارجية موضوعية".
جواب هذا أن الاقتراض بحيلة شراء الذهب والفضة بثمن مؤجل أمر وارد ، ولولا أنه وارد ما قال ابن تيمية قوله : "مالم يقصد كونها ثمناً" . وسيكون هذا عندئذٍ من باب الحيلة ، والحيلة كما قلنا لا يمكن منعها نهائياً ، فلو اشترى أحدهم منك سيارة بثمن مؤجل ، ثم باعها إلى آخر بثمن حال ، لأنه يريد الاقتراض ولا يريد الشراء ، كيف تستطيع أن تمنعه ؟ وكيف تستطيع أن تعرف في هذه الحالة أنه سيعيد بيع السيارة لأجل الحصول على النقود ؟ هذه هي حيلة " التورق" التي ربما أجازها بعض العلماء لهذا السبب، ولكن جوازها قضاءً لا يعني بالضرورة جوازها ديانة ، إلا للضرورات التي تبيح المحظورات . ومن هنا يتبين جدوى هذا القيد من الناحية العملية ، فجدواه تتعلق بالديانة لا بالقضاء .
20 ـ استحباب الخروج من الخلاف
1 ـ المعاملة قد تجري بطريقة تمنع معها عند جميع العلماء . فإذا ما أجري عليها تصحيح أول جازت عند عدد قليل من العلماء . وإذا ما أجري عليها تصحيح ثانٍ جازت عند عدد أكبر . وإذا ما أجري عليها تصحيح ثالث جازت عند