badoo
طاقم المشرفين
- رقم العضوية :
- 8379
- البلد/ المدينة :
- باتنة
- العَمَــــــــــلْ :
- طالب
- المُسَــاهَمَـاتْ :
- 3574
- نقاط التميز :
- 4206
- التَـــسْجِيلْ :
- 26/12/2010
في حضــــــرة الموت
ثمة أشخاص لا تدرك قرابتك بهم إلا بعد أن يغيبهم الموت، هم من ظلوا طيلة حياتهم منسيين في هامش حياتك، الذين كثيرا ما مررت بهم دون أن تسلم عليهم، الذين قليلا ما انشغلوا عنك بتفاصيل معيشهم اليومي.. ها هم يرحلون فجأة لتنتبه – كما لأول مرة – إلى المساحات الخالية منهم، وها أنت يكبر فيك الخواء وأنت تدرك أنهم من كانوا يؤثثون قلبك ويملؤون عينيك...
لماذا لا نفتقد الآخرين إلا بعد أن نفقدهم؟ ومن ذا الذي قد يعيد هندسة الفضاء البصري الفارغ بلا هم؟ وكيف يصير الغرباء فجأة في غيابهم أهم ما فينا ومن فينا، أ لأنهم ظلوا الأهم دون أن ينتبه لهم أحد؟ أم لأن العين تخشى الحيز الفارغ الذي ظلوا يشغلونه؟ الغرباء العابرون قربك وأنت الثابت الوحيد.. صدق الآن: وحدهم كانوا سكان قلبك ودربك وذاكرتك، وأنت وحدك الغريب العابر.
ها هو اسم آخر يمضي محمولا نعشه على أكتاف الرجال المدججين بالصبر أمام الألم، تتبعه النسوة الغارقات في الدمع، يتبعهن صبية طامعون في شيء من المال إكراما لبراءتهم.
عند قبره يذهلك ما تراه ويباغتك السؤال: كيف ينجح الموت في لم الناس هكذا من على الأرصفة والمساجد وكراس المقاهي وإحضارهم قسرا كي يشهدوا مراسيمه؟ تنزوي وحدك حتى يفرغوا من كل شيء وأنت ترقبهم في لحظات صدقهم الأهم.. ففي الموت.. حتى الكذب لا يخلو من الصدق.
على بعد أمتار منك ومنهم يفترش الأرض جلوسا بسطاء مسنون أتوا خصيصا كي يهدوا لروحه ثواب قراءة سورة ياسين، بعضهم لا تكاد تخلو جنازة منه، وفيهم لابد أن تجد واحدا يخط بعود قصير على التراب ما لا يفهمه سواه. يلتف الجميع حول شيخ واعظ يذكرهم بالآخرة، تنصت إلى افتتاحيته، ثم سرعان ما تعود إلى تأمل القبر وحدك حتى تفرغ عينيك من صاحبه وتلقي عليه السلام الأخير.. فللعيون ذاكرة لا تتسع للموتى. تحاول أن تبرهن له على حزنك بالبكاء فلا تفعل.. لا تستطيع.. لم تكن يوما من البكائين في المآتم.. وربما جاء بكاؤك في أقل مواسمك حزنا، ولربما جاء في أكثرها فرحا. يبدو كل شيء معكوسا: تشيعهم من هنا وهم هناك يعبرون البوابة خروجا من المقبرة كأنما يعبرون من الحياة إلى الموت ووجوههم تخلع حزنها لتبدو من تحته ملامح منحوتة تقاسيمها من فرح الخائفين، فتعود ملتفتا جهة القبر تارة أخرى لتسأله: ما اسم رحيلك، موت.. أم حياة؟
في سرادق العزاء تنسى أن تجامل موته ولو بحروف، ذلك أن الحزن لا صوت له، تمد كفك لتصافح الواقفين صفا واحدا، واحدا واحدا، وفي كل مرة تسألك عينان طاعنتان في الأسى: هل بكيته؟ هل أحزنك رحيله؟ كيف أنت في حضرة الموت؟ فيجيب صمتك نيابة عن شرودك: أنا... أنا... تبدو أمامهم بارد العينين، جامد القلب، عاديا يتساوى لديك حضوره وغيابه، فتود لو أنك تعتذر أمامهم عن حزنك الذي يأبى أن يطفو أمامهم، عن نبرات صوتك الخالية من بحة الفقدان، عن دمعك الذي غاب في محجريك، وتود لو أن الحزن يتجلى في أشياء أخرى قد يصدقوك بها. تأخذ مكانك بين الجالسين متفاديا أن تبادلهم الحديث نفسه عن الموت، إذ أن لك حديثك الخاص منفردا عن كل الحاضرين. يُطاف عليكم بفناجين القهوة والحلوى، فيراودك سؤال آخر: من ذا الذي جعل من هذه العادات طقوسا للحزن؟ تأخذ فنجانك، وقطعة بها حبة قرنفل، ثم سرعان ما يتناوب أفراد من عائلة الفقيد ومعارفه في تجديد الترحيب بمن حضر والدعاء بثبوت الأجر. تنسرق منهم في شبه غفوة وقد أغمضت عينيك مسندا رأسك إلى الجدار، ثم تبدأ في الدعاء له سرا قبل أن يتحول سرك إلى همهمات.. أنت الآن مثله.. هو وحده، وأنت وحدك.. ولا فرق بينكما إلا أنك حي، وهو ميت. أخيرا يأتيك حزنك دفقة واحدة كأنك ادخرته لوحدتك لا أكثر، كأنك لم ترد أن تضيع دموعك في بكائهم، ونشيجك في صراخهم، كأنك... ما تزال عيناك مغمضتين والخيط المالح ينبجس منهما ثم يتهاوى كي يمر لصيقا بشفتين يابستين كلما بللتهما بطرف لسانك تسرق من الخيط ملحه.. شفتان راعشتان تتمتمان بما تحفظه من آيات، بالدعاء الطويل الوحيد الذي تتقنه، وبالشهقات... كأنك تقول له ولمن سبقوه، باسمك وبأسماء الغافلين عن غيرهم: هذا مجرد إشعار بالوفاء لذكرى الذين مضوا في غفلة من حبنا لهم، كأننا نقول لهم: ليتنا أحببناكم.. فوق ما أحببناكم... وأكثر.