أبو الفداء
عضو مساهم
- البلد/ المدينة :
- لا شيء
- المُسَــاهَمَـاتْ :
- 210
- نقاط التميز :
- 257
- التَـــسْجِيلْ :
- 29/09/2012
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السموات والأرضين، الذي لا عز إلا في طاعته، ولا غنى إلا في الافتقار إليه.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين. وصلوات الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الكرام الصالحين ومن اتبعهم بإحسان، وسلم تسليما كثيرا.
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ([آل عمران: 102]
) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا
رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ( [النساء ]
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً* ( [الأحزاب 70:71]
وبعـــــد
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد (r)، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
الأخوة الكرام ، سؤال دائما ما يظهر ويتردد في الزهن مع هذه الغربة المذهلة لهذا الدين وأهله ، هل يمكن أن يشتري المرء الضلالة علي بصيرة بما يسعي إليه من شر وفتنة ويترك الهدي علي علم بما يترك ؟!!!!
هل يمكن أن يدخل المرء في تحديات فارغة لأهداف وهمية وتافهة ، تتلخص جميعا في الدفاع عن مكانة تحت وهم المكانة ، والدفاع عن مناصب تحت وهم المناصب ، والدفاع عن مكاسب المادية أو المعنوية تحت وهم المكاسب !!!
هل يمكن أن يدخل المرء في تحديات فارغة لأهداف وهمية وتافهة ، يحطم خلالها جميع المقدسات أو يسعي لتحطيمها ، ويفسد خلالها جميع القيم والمبادئ أو يتمني إفسادها ، حتي أنه يلجأ إلي الكذب المفضوح ، والحيل الخبيثة الرخيصة المكشوفة ولا يجد في صدره حرج من تعداد ذلك عليه حتي صار (كالعاهرة ) التي لا تستحي من ظهور سؤتها ولا من أن تنال عرضها الأيدي والألسنة !!!
)وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)( البقرة
الحقيقة أن الذكر الحكيم يجيب عن ذلك في أبلغ البيان ، من خلال مشاهد ثلاثة لطائفة واحدة من أهل الضلال (شياطين الإنس والجن) :
المشهد الأول :
الوارد في قوله تعالي :
) وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) ( النساء
قال ابن كثير :
عن ابن عباس قال: كان إبليس من حَيّ من أحياء الملائكة يقال لهم: الجِنّ، خلقوا من نار السموم، من بين الملائكة، وكان اسمه الحارث، وكان خازنا من خزان الجنة،أ.هـ
وقال : وقوله: { لَعَنَهُ اللَّهُ } أي: طرده وأبعده من رحمته، وأخرجه من جواره.
وقال: { لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } أي: مُعَيَّنا مقدَّرًا معلومًا. قال مقاتل بن حيان: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة.
{ وَلأضِلَّنَّهُمْ } أي: عن الحق { وَلأمَنِّيَنَّهُمْ } أي: أزين لهم ترك التوبة، وأعدهم الأماني، وآمرهم بالتسويف والتأخير، وأغرهم من أنفسهم.
المشهد الثاني :
الوارد في قوله تعالي :
)وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)( الأعراف
قال ابن كثير :
ـ عن الحسن في قوله: { خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } قال: قاس إبليس، وهو أول من قاس. إسناده صحيح.
وقال: عن ابن سيرين قال : أول من قاس إبليس، وما عُبِدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس ، إسناد صحيح أيضا.
ـ { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) }
يخبر تعالى أنه لما أنظر إبليس { إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } واستوثق إبليس بذلك، أخذ في المعاندة والتمرد، فقال: { فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } أي: كما أغويتني.قال ابن عباس: كما أضللتني. وقال غيره: كما أهلكتني لأقعدن لعبادك - الذين تخلقهم من ذرية هذا الذي أبعدتني بسببه - على { صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } أي: طريق الحق وسبيل النجاة، ولأضلنهم عنها لئلا يعبدوك ولا يوحدوك بسبب إضلالك إياي.
ـ وقوله: { ثمَُ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وِعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:
{ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } أشككهم في آخرتهم،
{ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أرغبهم في دنياهم
{ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } أشبَه عليهم أمر دينهم
{ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } أشهي لهم المعاصي.
ـ وقال عن ابن عباس: { وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } قال: موحدين.
ـ { وَقَاسَمَهُمَا } أي: حلف لهما بالله:
{ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } فإني من قَبْلكما هاهنا، وأعلم بهذا المكان
أي: حلف لهما بالله [على ذلك] حتى خدعهما،ـ وقد يخدع المؤمن بالله ـ فقال: إني خُلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعاني أرشدكما. وكان بعض أهل العلم يقول: "من خادعنا بالله خُدعنا له".
ـ فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما، وكان الذي وارى عنهما من سوآتهما أظفارهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وَرقَ التين، يلزقان بعضه إلى بعض. فانطلق آدم، عليه السلام، موليا في الجنة، فعلقت برأسه شجرة من الجنة، فناداه: يا آدم، أمني تفر؟ قال: لا ولكني استحييتك يا رب. قال: أما كان لك فيما منحتك من الجنة وأبحتك منها مندوحة، عما حرمت عليك. قال: بلى يا رب، ولكن وعزتك ما حسبت أن أحدًا يحلف بك كاذبًا.
المشهد اثالث :
الوارد في قوله تعالي :
) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ
وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)( التوبة
قال ابن كثير : ـ والأيات عن المنافقين المتواجدون بين المؤمنين ـ ثم بين [الله تعالى] وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين. فقال:
* · { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا } أي: لأنهم جبناء مخذولون،
* · { وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ } أي: ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة،
* · { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أي: مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدي هذا إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير. أ.هـ
خطورة صاحب البدعة علي المسلمين
* · صاحب البدع الكفرية قد دخل بفعله هذا في زمام أهل الفتنة والزيغ الوارد ذكرهم في قوله تعالى :
] فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ [{آل عمران : 7}
وقد صح عن رسول الله (r) في تفسير هذه الآية الكريمة من حديث السيدة عائشة tا قوله :
( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذي سمى الله فاحذروهم ) ([1])
ولأن المرأ إذا لم يكن متبعاً للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة ولعل القارئ الكريم يعلم ما في إتباع الهوى، وأنه ضلال مبين .
* · وفي حديث رسول الله (r) قوله :( وإنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله )
قال الشاطبي رحمه الله في تفسير ذلك :
[ فأخبر (r) بما سيكون في أمته ، وأنه يكون فيهم أقوام تداخل تلك الأهواء قلوبهم حتى لا يمكن في العادة انفصالها عنهم وتوبتهم منها ، على حد ما يداخل داء الكلب جسم صاحبه ، وهو جريان لا يقبل العلاج ولا ينفع الدواء .
فذلك صاحب الهوى إذا دخل قلبه وأشرب حبه ،لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ولا يكترث بمن خالفه ، واعتبر ـ أي لنا العبرة ـ في ذلك بالمتقدمين من أهل الأهواء كمعبد الجهني وعمرو بن عبيد وسواهما فإنهم كانوا حيث لقوا مطرودين من كل وجه مبعدين عند كل مسلم ،ثم مع ذلك لم يزدادوا إلا تمادياً على ضلالتهم ومداومة على ما هم عليه .
)وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً [ {المائدة 41}
وحاصل ما عولوا عليه تحكيم العقول مجردة فشركوها مع الشرع في التحسين والتقبيح , ولو وقفوا هنالك لكان الداهية على عظمها أيسر ولكنهم تجاوزا هذه الحدود كلها إلى أن نصبوا المحاربة لله ورسوله باعتراضهم على كتاب الله وسنة نبيه (r) وإدعائهم عليهما من التناقض والاختلاف ومنافاة العقول ما لم تجرؤ الجاهلية الأولى إدعاؤه على ما كانوا عليه من الفصاحة والمعاداة لدين الله ورسوله.
فهذا من بيان معنى قوله (r) ( تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ) وقبل وبعد فأهل الأهواء والفرقة إذا استحكمت فيهم أهوائهم لم يبالوا بشئ ، ولم يعدو خلاف أنظارهم شيئاً ولا راجعوا عقولهم مراجعة من يتهم نفسه ويتوقف في موارد الإشكال كشأن المعتبرين من أهل العقول ] أ . هـ ([2]) .
فما أدق ما وصف به الشاطبي رحمه الله أهل الأهواء والتركيبة النفسية لهم حال تمسكهم بما هم عليه من الهوى وتحكيم الرأي وهم يحسبون أنهم مهتدون ، وهل أدل على ذلك من كونهم يقرأون بأنفسهم وبأم أعينهم أقوال العشرات من فحول أهل العلم والهدى في شرح القضايا وأدلتها على خلاف ما يقوله صاحب الهوى والبدعة ،ولا يبالوا لهذا، ولا يذدهم إلا تمسكاً بما هم عليه من ضلالة .
فسبحان مقلب القلوب والأبصار ومن يحول بين المرء وقلبه ، نسأل الله تعالى العفو والعافية
ولكن
هل كل من دخل في البدعة مُشرب القلب بها فلا يمكنه التوبة منها ؟
يجيب الشاطبي رحمه الله عن ذلك حيث يقول :
[ أن قوله (r) ( وأنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء ..) إلى آخره يحتمل أمرين :
أحدهما – أن يريد أن كل من دخل من أمته في هوى تلك الأهواء فإن هواه يجري فيه مجرى الكلب بصاحبه فلا يراجع أبداً هواه ولا يتوب من بدعته .
والثاني – أن يريد أن من أمته من يكون عند دخوله في البدعة مشرب القلب بها فلا يمكنه التوبة ،
ومنهم من لا يكون كذلك فيمكنه التوبة .
- والذي يدل على صحة الأول : هو النقل المقتضي – المثبت – الحجر للتوبة على صاحب البدعة عموماً – كقوله (r) ( يمرقون من الدين ثم لا يعودون .. ) وقوله (r) ( أن الله حجر التوبة عن صاحب البدعة ) وما أشبه ذلك .
ويشهد له أيضاً الواقع فإنه قلما تجد صاحب بدعة ارتضاها لنفسه يخرج عنها أو يتوب منها ، بل هو ، يزداد بضلالتها بصيرة .
- ويدل على صحة الثاني : أن ما تقدم من النقل لا يدل على أن لا توبة له أصلاً ، لأن العقل والشرع يجوز ذلك ، وإن كان اللفظ في النقل (عام) إلا أن العادة إنما تقتضي في العموم الأكثرية فلا تحتاج الشمول الذي يجزم به العقل إلا بحكم الاتفاق . والدليل على ذلك أنّا وجدنا من كان ببدع عاملاً بها ثم راجع نفسه بالرجوع عنها كما رجع من الخوارج من رجع حين ناظرهم ابن عباس y ] أ. هـ([3]) .
خطورة و تأثير كلام صاحب البدعة ومجالسته على الآخرين :
ومن المناسب في هذا المقام أن نذكر شيئاً عن تأثير مجالسة صاحب الابتداع والزيغ على الآخرين ممن لا دارية له ولا قدرة على تمييز الدليل ولا خبرة عندهم بالمسائل أو قواعد الاستدلال .
* · فبمناسبة هذا الحديث عن رسول الله (r) عن هؤلاء القوم الذين تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه,فقد تكلم أهل العلم في تأثير كلام صاحب البدعة ومجالسته في القلوب حيث يقول الشاطبي رحمه الله :
[ وبيان ذلك أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى ثم إن عض ذلك الكلب أحداً صار مثله ، فكذلك المبتدع إذا أورد على أحد رأيه وأشكاله فقلما يسلم من غائلته ، بل إما يقع في مذهبه معه ويصير من شيعته ، وإما أن يورث في قلبه شكاً يطمع في الانفصال عنه فلا يقدر .
وهذا بخلاف سائر المعاصي , فإن صاحبها لا يضر إلا مع طول الصحبة والأنس به والاعتياد لحضور معصيته . وقد أتى في الآثار ما يدل على هذا المعنى فإن السلف الصالح نهوا عن مجالستهم ومكالمتهم ، وأغلظوا في ذلك ] أ . هـ ([4]) .
وهل أدل على وجوب مجانبته خشية مفسدته من قول رسول الله (r): ( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ) وإذا كان الرسول الكريم (r) قد قال ( فاحذروهم) وهو (r) أعلم بمواطن النفع فيأمر به ومواطن الفساد فينهى عنه , ومع ذلك فتجد هناك من يتعامل مع هذا التحذير وكما لو كان الرسول (r) قد قال فالزموهم أو احتضنوهم أو تبنوا مذاهبهم أو آوهم أو مثل ذلك مما يوقع المفسدة في قطاعات عريضة من بسطاء المسلمين . ([5])
هذا على ما ورد في الحديث الآخر أيضاً : ( من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً ) (1) متفق عليه من رواية على بن ابى طالب رضى الله عنه،
هذا ومن العلامات الهامة التي عرفت عن أهل الزيغ والانحراف عن جادة الصواب , أنه يخُفي ذلك عن كل من يلتمس فيه علم يستطيع أن يكشف به زيغه ويتجنب الحديث معه في ذلك ، ولذلك لعلك تجده أبعد الناس عن المواجهة والمناظرة بالدليل الشرعى مع كل من يظن فيه العلم ، بل يتحين الفرص لبث بدعته وضلالته مع عوام المسلمين فقط أو ضعفائهم ومن يلتمس لديهم نوع قبول دون القدرة على استيعاب الدليل أو صحيح الاستدلال من سقيمه .. وهذا المسلك من أرباب البدع والأهواء مسجل عليهم مشهور عنهم منذ القدم , ولعله فطرى أو تلقائى لكل صاحب هوى ، فقد شرح مثل هذا الإمام الشاطبى وسجله في كتابه الاعتصام منذ مئات السنين حيث قال واصفاً مثل هذا المسلك بقوله :
على أن أرباب البدع أكثرهم لا يحبون أن يناظروا أحداً ،ولا يفاتحون أحداً عالماً ولا غيره فيما يبتغون خوفاً من الفضيحة أن لا يجدوا مستنداً شرعياً ، وإنما شأنهم إذا وجدوا عالماً أو لقوة أن يصانعوه ، وإذا وجدوا جاهلاً عامياً ألقوا عليه في الشريعة الطاهرة إشكالات حتى يزلزلوهم ويخلطوا عليهم ويلبسوا دينهم ، فإذا عرفوا منهم الحيرة والالتباس ألقوا إليهم من بدعهم على التدريج شيئاً فشيئاً ، وذموا أهل العلم بأنهم أهل دنياً المكبون عليها ، وأن هذه الطائفة – طائفتهم هم – أهل الله وخاصته . وأما أن يأتوا الأمر من بابه ويناظروا عليه العلماء الراسخين فلا .} أ.هـ (1)
فأين هذا من مسلك أهل الدين الحق الذين حملوا أمانة الدعوة لهذا الدين بين جموع الناس علمائهم وعوامهم لا يخشون في الله حجج المبطلين ولا جدال المنافقين ولا لومة اللائمين ، بل ولا سلطان المشركين ، ولا يتحرجوا من قضاياهم المؤيدة بصريح القرآن والسنة ،ولا يخصوا بها ضعفاء الناس وجهالهم دون أكابرهم ومثقفيهم وفقهائهم ، شتان بين الظلمات والنور .
* · ولذا فقد ورد التحذير الدائم من مجالسة أهل البدع والضلال ، ثم التوجيه الشرعي الدائم من ملازمة سؤال أهل العلم من ناحية , وطلب العلم الشرعي من ناحية أخرى قبل أن يتصدر الإنسان للفتوى والتعصب للأحكام المغلوطة . والغريب أن المبتدع نفسه، ومن اقتنع بقوله، يقرأ بنفسه مدى مخالفته لأقوال أهل العلم الكبار في شرح الدليل , ولا يحرك ذلك في نفسه ساكناً , تمسكاً بدليل عجز عن فهمه وإدراك ما به من دلالة , بل عجز عن التوفيق بينه وبين سائر الأدلة الواردة في ذات الموضوع، وتعصب لرأيه وسد عن نفسه منافذ الفهم والعلم . وهكذا أهل البدع والضلال المحرومون التوفيق .
في ذكر بعض ما ثبت في حق أهل
الابتداع من الأوصاف المحذورة
ونذكر في هذا الفصل بعض ما في البدع من الأوصاف المحذورة والمعاني المذمومة وأنواع الشؤم الذي يصيب صاحب البدعة ومن شايعه وأواه , وقد ذكر الشاطبى في ذلك سبعة عشر معنى تنال صاحب البدعة إلا أن يراجع ، نلخصها في الآتى , وعلى من يهمه الأمر أن يراجع تفاصيلها وبيان شروحها وأدلتها في مواضعها وبالله التوفيق فمما ذكره رحمه الله : ([6])
1- أن البدع لا يقبل معها عبادة من صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا غيرها من القربات .
2- ومجالس صاحبها تنزع منه العصمة ويوكله الله إلى نفسه .
3- والماشي إليه وموقره مُعين على هدم الإسلام فما الظن بصاحبها .
4- وهو ملعون على لسان الشريعة ، وملعون من يأويه أو يشايعه .
5- ويزداد من الله بعداً بعبادته .
6- والبدعة مظنة إلقاء العداوة والبغضاء بين الإخوان .
7- وهى مانعة من الشفاعة المحمدية يوم القيامة .
8- وهى رافعة للسنن التي تقابلها .
9- وعلى مبتدعها إثم من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً .
10- وليس له توبة ، على الغالب .
11- وتلقى عليه الذلة والغضب من الله .
12- ويُبعد عن حوض رسول الله (r) .
13- ويخاف عليه أن يكون معدوداً من الكفار الخارجين من الملة .
(وهذا إذا لم تكن بدعته كفرية في ذاتها)
14- ويخاف عليه من سوء الخاتمة .
15- ويسود وجهه في الآخرة ويعذب في النار .
16- وقد تبرأ منه رسول الله (r) وتبرأ منه المسلمون .
17- ويخاف عليه الفتنة في الدنيا زيادة إلى عذاب الآخرة .
فهذه سبعة عشر خصلة مذمومة وخطة مشئومة تحيط بأصحاب البدع حرية بأن يتحرى المرء لدينه ويتبع ولا يبتدع وكما قالوا : (اقتصاد في طاعة خير من اجتهاد في ضلالة )
ولولا تكاسل أهل العلم والخاصة عن النظر فيما يصلح عقائد الناس ودينهم , إضافة إلى غلبة الجهل على عوام الناس والتماس الأعذار لهم بالجهل , ما وجد أمثال هؤلاء المنحرفين مجالاً لدعوتهم . وقد كان لغلبة الجهل على طوائف الناس عامة حقلاًُ فسيحاًُ في انتشار أوجه الضلال فلم يفرقوا بين السنة والبدعة , ولا بين ما هو شرك أو إسلام. بل انقلب الحال حتى أصبحت السنة في أعين كثير من الناس هي عين البدعة , وأصبح معالم عقيدة التوحيد تطرف و شذوذ , فقد انقلب الحال , وبدل الناس أكثر ما كانوا عليه , ونسوا حظاًُ مما ذكروا به , فأغرى الله تعالى بينهم العداوة والبغضاء , فقام الناس في غير موضع القيام , بل قاموا ليأخذوا على أيدي كل من دعا إلى العقيدة الصحيحة ونادي بالسنن الكريمة , وفي ذات الوقت الذي ناصر فيه هؤلاء الناس معالم الشرك والتبديل للديانة والبدع , فاستقاموا إلى غير مستقيم . وما كان ذلك إلا لجهلهم بما أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه واتبعوا قول كل أفاك أثيم من أمراء وأحبار ورهبان ممن لبسوا جلود الضأن على قلوب الذئاب، فعم الداء وعدم الأطباء حسبما جاءت به الأخبار، ومن ذلك :
_ قول رسول الله r ( بدأ الإسلام غريباًُ وسيعود غريباًُ كما بدأ , فطوبى للغرباء ) .
_ وقوله r من حديث العرباض بن سارية ( .. فأنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافاًُ كثيراًُ .. ) الحديث
_ ومنها قول حذيفة رضى الله عنه : ( والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا ما بين هذين الحجرين من النور , والله لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيئاًُ قالوا تركت السنة ) .
_ ومنها قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( كيف أنتم إذا ألبستم فتنة يهرم فيها الكبير وينشأ فيها الصغير , تجرى على الناس يحدثونها سنة , إذا غيرت قيل : هذا منكر ) . أ.هـ
)فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)( الرعد
انتهي
والحمد لله وحده
والصلاة والسلام علي من لا نبي بعده
([1] ) راجع تفسير ابن كثير لآية في سورة آل عمران .
([2] ) الاعتصام . الشاطبي جـ2 الباب التاسع المسألة 18 صــ 477.
([3] ) الاعتصام . الشاطبي جـ 2 صـ 479 .
([4] ) الاعتصام . الشاطبي صــ 484.
([5] ) وانظر كيف انتكس حال صاحب هذه البدعة الكفرية من الدعوة إلى التوحيد ومجانبة الشرك وأهله ، إلى حال المدافع عن أبناء المشركين والباذل جهده ووقته وطاقته في الانتصار لهم بكل حيلة ، وهذا من تزيين الشيطان وكيده .
(1) متفق عليه أخرجه البخارى في كتاب الاعتصام ومسلم في كتاب الحج .
(1) الشاطبى . في الاعتصام ، جـ2 ، صـ392 .
([6] ) الاعتصام . الشاطبي . الباب الثاني ، صـ80 .
الحمد لله رب العالمين
نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السموات والأرضين، الذي لا عز إلا في طاعته، ولا غنى إلا في الافتقار إليه.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين. وصلوات الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الكرام الصالحين ومن اتبعهم بإحسان، وسلم تسليما كثيرا.
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ([آل عمران: 102]
) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا
رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ( [النساء ]
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً* ( [الأحزاب 70:71]
وبعـــــد
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد (r)، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
الأخوة الكرام ، سؤال دائما ما يظهر ويتردد في الزهن مع هذه الغربة المذهلة لهذا الدين وأهله ، هل يمكن أن يشتري المرء الضلالة علي بصيرة بما يسعي إليه من شر وفتنة ويترك الهدي علي علم بما يترك ؟!!!!
هل يمكن أن يدخل المرء في تحديات فارغة لأهداف وهمية وتافهة ، تتلخص جميعا في الدفاع عن مكانة تحت وهم المكانة ، والدفاع عن مناصب تحت وهم المناصب ، والدفاع عن مكاسب المادية أو المعنوية تحت وهم المكاسب !!!
هل يمكن أن يدخل المرء في تحديات فارغة لأهداف وهمية وتافهة ، يحطم خلالها جميع المقدسات أو يسعي لتحطيمها ، ويفسد خلالها جميع القيم والمبادئ أو يتمني إفسادها ، حتي أنه يلجأ إلي الكذب المفضوح ، والحيل الخبيثة الرخيصة المكشوفة ولا يجد في صدره حرج من تعداد ذلك عليه حتي صار (كالعاهرة ) التي لا تستحي من ظهور سؤتها ولا من أن تنال عرضها الأيدي والألسنة !!!
)وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)( البقرة
الحقيقة أن الذكر الحكيم يجيب عن ذلك في أبلغ البيان ، من خلال مشاهد ثلاثة لطائفة واحدة من أهل الضلال (شياطين الإنس والجن) :
المشهد الأول :
الوارد في قوله تعالي :
) وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) ( النساء
قال ابن كثير :
عن ابن عباس قال: كان إبليس من حَيّ من أحياء الملائكة يقال لهم: الجِنّ، خلقوا من نار السموم، من بين الملائكة، وكان اسمه الحارث، وكان خازنا من خزان الجنة،أ.هـ
وقال : وقوله: { لَعَنَهُ اللَّهُ } أي: طرده وأبعده من رحمته، وأخرجه من جواره.
وقال: { لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } أي: مُعَيَّنا مقدَّرًا معلومًا. قال مقاتل بن حيان: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة.
{ وَلأضِلَّنَّهُمْ } أي: عن الحق { وَلأمَنِّيَنَّهُمْ } أي: أزين لهم ترك التوبة، وأعدهم الأماني، وآمرهم بالتسويف والتأخير، وأغرهم من أنفسهم.
المشهد الثاني :
الوارد في قوله تعالي :
)وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)( الأعراف
قال ابن كثير :
ـ عن الحسن في قوله: { خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } قال: قاس إبليس، وهو أول من قاس. إسناده صحيح.
وقال: عن ابن سيرين قال : أول من قاس إبليس، وما عُبِدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس ، إسناد صحيح أيضا.
ـ { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) }
يخبر تعالى أنه لما أنظر إبليس { إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } واستوثق إبليس بذلك، أخذ في المعاندة والتمرد، فقال: { فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } أي: كما أغويتني.قال ابن عباس: كما أضللتني. وقال غيره: كما أهلكتني لأقعدن لعبادك - الذين تخلقهم من ذرية هذا الذي أبعدتني بسببه - على { صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } أي: طريق الحق وسبيل النجاة، ولأضلنهم عنها لئلا يعبدوك ولا يوحدوك بسبب إضلالك إياي.
ـ وقوله: { ثمَُ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وِعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:
{ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } أشككهم في آخرتهم،
{ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أرغبهم في دنياهم
{ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } أشبَه عليهم أمر دينهم
{ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } أشهي لهم المعاصي.
ـ وقال عن ابن عباس: { وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } قال: موحدين.
ـ { وَقَاسَمَهُمَا } أي: حلف لهما بالله:
{ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } فإني من قَبْلكما هاهنا، وأعلم بهذا المكان
أي: حلف لهما بالله [على ذلك] حتى خدعهما،ـ وقد يخدع المؤمن بالله ـ فقال: إني خُلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعاني أرشدكما. وكان بعض أهل العلم يقول: "من خادعنا بالله خُدعنا له".
ـ فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما، وكان الذي وارى عنهما من سوآتهما أظفارهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وَرقَ التين، يلزقان بعضه إلى بعض. فانطلق آدم، عليه السلام، موليا في الجنة، فعلقت برأسه شجرة من الجنة، فناداه: يا آدم، أمني تفر؟ قال: لا ولكني استحييتك يا رب. قال: أما كان لك فيما منحتك من الجنة وأبحتك منها مندوحة، عما حرمت عليك. قال: بلى يا رب، ولكن وعزتك ما حسبت أن أحدًا يحلف بك كاذبًا.
المشهد اثالث :
الوارد في قوله تعالي :
) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ
وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)( التوبة
قال ابن كثير : ـ والأيات عن المنافقين المتواجدون بين المؤمنين ـ ثم بين [الله تعالى] وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين. فقال:
* · { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا } أي: لأنهم جبناء مخذولون،
* · { وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ } أي: ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة،
* · { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أي: مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدي هذا إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير. أ.هـ
خطورة صاحب البدعة علي المسلمين
* · صاحب البدع الكفرية قد دخل بفعله هذا في زمام أهل الفتنة والزيغ الوارد ذكرهم في قوله تعالى :
] فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ [{آل عمران : 7}
وقد صح عن رسول الله (r) في تفسير هذه الآية الكريمة من حديث السيدة عائشة tا قوله :
( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذي سمى الله فاحذروهم ) ([1])
ولأن المرأ إذا لم يكن متبعاً للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة ولعل القارئ الكريم يعلم ما في إتباع الهوى، وأنه ضلال مبين .
* · وفي حديث رسول الله (r) قوله :( وإنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله )
قال الشاطبي رحمه الله في تفسير ذلك :
[ فأخبر (r) بما سيكون في أمته ، وأنه يكون فيهم أقوام تداخل تلك الأهواء قلوبهم حتى لا يمكن في العادة انفصالها عنهم وتوبتهم منها ، على حد ما يداخل داء الكلب جسم صاحبه ، وهو جريان لا يقبل العلاج ولا ينفع الدواء .
فذلك صاحب الهوى إذا دخل قلبه وأشرب حبه ،لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ولا يكترث بمن خالفه ، واعتبر ـ أي لنا العبرة ـ في ذلك بالمتقدمين من أهل الأهواء كمعبد الجهني وعمرو بن عبيد وسواهما فإنهم كانوا حيث لقوا مطرودين من كل وجه مبعدين عند كل مسلم ،ثم مع ذلك لم يزدادوا إلا تمادياً على ضلالتهم ومداومة على ما هم عليه .
)وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً [ {المائدة 41}
وحاصل ما عولوا عليه تحكيم العقول مجردة فشركوها مع الشرع في التحسين والتقبيح , ولو وقفوا هنالك لكان الداهية على عظمها أيسر ولكنهم تجاوزا هذه الحدود كلها إلى أن نصبوا المحاربة لله ورسوله باعتراضهم على كتاب الله وسنة نبيه (r) وإدعائهم عليهما من التناقض والاختلاف ومنافاة العقول ما لم تجرؤ الجاهلية الأولى إدعاؤه على ما كانوا عليه من الفصاحة والمعاداة لدين الله ورسوله.
فهذا من بيان معنى قوله (r) ( تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ) وقبل وبعد فأهل الأهواء والفرقة إذا استحكمت فيهم أهوائهم لم يبالوا بشئ ، ولم يعدو خلاف أنظارهم شيئاً ولا راجعوا عقولهم مراجعة من يتهم نفسه ويتوقف في موارد الإشكال كشأن المعتبرين من أهل العقول ] أ . هـ ([2]) .
فما أدق ما وصف به الشاطبي رحمه الله أهل الأهواء والتركيبة النفسية لهم حال تمسكهم بما هم عليه من الهوى وتحكيم الرأي وهم يحسبون أنهم مهتدون ، وهل أدل على ذلك من كونهم يقرأون بأنفسهم وبأم أعينهم أقوال العشرات من فحول أهل العلم والهدى في شرح القضايا وأدلتها على خلاف ما يقوله صاحب الهوى والبدعة ،ولا يبالوا لهذا، ولا يذدهم إلا تمسكاً بما هم عليه من ضلالة .
فسبحان مقلب القلوب والأبصار ومن يحول بين المرء وقلبه ، نسأل الله تعالى العفو والعافية
ولكن
هل كل من دخل في البدعة مُشرب القلب بها فلا يمكنه التوبة منها ؟
يجيب الشاطبي رحمه الله عن ذلك حيث يقول :
[ أن قوله (r) ( وأنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء ..) إلى آخره يحتمل أمرين :
أحدهما – أن يريد أن كل من دخل من أمته في هوى تلك الأهواء فإن هواه يجري فيه مجرى الكلب بصاحبه فلا يراجع أبداً هواه ولا يتوب من بدعته .
والثاني – أن يريد أن من أمته من يكون عند دخوله في البدعة مشرب القلب بها فلا يمكنه التوبة ،
ومنهم من لا يكون كذلك فيمكنه التوبة .
- والذي يدل على صحة الأول : هو النقل المقتضي – المثبت – الحجر للتوبة على صاحب البدعة عموماً – كقوله (r) ( يمرقون من الدين ثم لا يعودون .. ) وقوله (r) ( أن الله حجر التوبة عن صاحب البدعة ) وما أشبه ذلك .
ويشهد له أيضاً الواقع فإنه قلما تجد صاحب بدعة ارتضاها لنفسه يخرج عنها أو يتوب منها ، بل هو ، يزداد بضلالتها بصيرة .
- ويدل على صحة الثاني : أن ما تقدم من النقل لا يدل على أن لا توبة له أصلاً ، لأن العقل والشرع يجوز ذلك ، وإن كان اللفظ في النقل (عام) إلا أن العادة إنما تقتضي في العموم الأكثرية فلا تحتاج الشمول الذي يجزم به العقل إلا بحكم الاتفاق . والدليل على ذلك أنّا وجدنا من كان ببدع عاملاً بها ثم راجع نفسه بالرجوع عنها كما رجع من الخوارج من رجع حين ناظرهم ابن عباس y ] أ. هـ([3]) .
خطورة و تأثير كلام صاحب البدعة ومجالسته على الآخرين :
ومن المناسب في هذا المقام أن نذكر شيئاً عن تأثير مجالسة صاحب الابتداع والزيغ على الآخرين ممن لا دارية له ولا قدرة على تمييز الدليل ولا خبرة عندهم بالمسائل أو قواعد الاستدلال .
* · فبمناسبة هذا الحديث عن رسول الله (r) عن هؤلاء القوم الذين تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه,فقد تكلم أهل العلم في تأثير كلام صاحب البدعة ومجالسته في القلوب حيث يقول الشاطبي رحمه الله :
[ وبيان ذلك أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى ثم إن عض ذلك الكلب أحداً صار مثله ، فكذلك المبتدع إذا أورد على أحد رأيه وأشكاله فقلما يسلم من غائلته ، بل إما يقع في مذهبه معه ويصير من شيعته ، وإما أن يورث في قلبه شكاً يطمع في الانفصال عنه فلا يقدر .
وهذا بخلاف سائر المعاصي , فإن صاحبها لا يضر إلا مع طول الصحبة والأنس به والاعتياد لحضور معصيته . وقد أتى في الآثار ما يدل على هذا المعنى فإن السلف الصالح نهوا عن مجالستهم ومكالمتهم ، وأغلظوا في ذلك ] أ . هـ ([4]) .
وهل أدل على وجوب مجانبته خشية مفسدته من قول رسول الله (r): ( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ) وإذا كان الرسول الكريم (r) قد قال ( فاحذروهم) وهو (r) أعلم بمواطن النفع فيأمر به ومواطن الفساد فينهى عنه , ومع ذلك فتجد هناك من يتعامل مع هذا التحذير وكما لو كان الرسول (r) قد قال فالزموهم أو احتضنوهم أو تبنوا مذاهبهم أو آوهم أو مثل ذلك مما يوقع المفسدة في قطاعات عريضة من بسطاء المسلمين . ([5])
هذا على ما ورد في الحديث الآخر أيضاً : ( من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً ) (1) متفق عليه من رواية على بن ابى طالب رضى الله عنه،
هذا ومن العلامات الهامة التي عرفت عن أهل الزيغ والانحراف عن جادة الصواب , أنه يخُفي ذلك عن كل من يلتمس فيه علم يستطيع أن يكشف به زيغه ويتجنب الحديث معه في ذلك ، ولذلك لعلك تجده أبعد الناس عن المواجهة والمناظرة بالدليل الشرعى مع كل من يظن فيه العلم ، بل يتحين الفرص لبث بدعته وضلالته مع عوام المسلمين فقط أو ضعفائهم ومن يلتمس لديهم نوع قبول دون القدرة على استيعاب الدليل أو صحيح الاستدلال من سقيمه .. وهذا المسلك من أرباب البدع والأهواء مسجل عليهم مشهور عنهم منذ القدم , ولعله فطرى أو تلقائى لكل صاحب هوى ، فقد شرح مثل هذا الإمام الشاطبى وسجله في كتابه الاعتصام منذ مئات السنين حيث قال واصفاً مثل هذا المسلك بقوله :
على أن أرباب البدع أكثرهم لا يحبون أن يناظروا أحداً ،ولا يفاتحون أحداً عالماً ولا غيره فيما يبتغون خوفاً من الفضيحة أن لا يجدوا مستنداً شرعياً ، وإنما شأنهم إذا وجدوا عالماً أو لقوة أن يصانعوه ، وإذا وجدوا جاهلاً عامياً ألقوا عليه في الشريعة الطاهرة إشكالات حتى يزلزلوهم ويخلطوا عليهم ويلبسوا دينهم ، فإذا عرفوا منهم الحيرة والالتباس ألقوا إليهم من بدعهم على التدريج شيئاً فشيئاً ، وذموا أهل العلم بأنهم أهل دنياً المكبون عليها ، وأن هذه الطائفة – طائفتهم هم – أهل الله وخاصته . وأما أن يأتوا الأمر من بابه ويناظروا عليه العلماء الراسخين فلا .} أ.هـ (1)
فأين هذا من مسلك أهل الدين الحق الذين حملوا أمانة الدعوة لهذا الدين بين جموع الناس علمائهم وعوامهم لا يخشون في الله حجج المبطلين ولا جدال المنافقين ولا لومة اللائمين ، بل ولا سلطان المشركين ، ولا يتحرجوا من قضاياهم المؤيدة بصريح القرآن والسنة ،ولا يخصوا بها ضعفاء الناس وجهالهم دون أكابرهم ومثقفيهم وفقهائهم ، شتان بين الظلمات والنور .
* · ولذا فقد ورد التحذير الدائم من مجالسة أهل البدع والضلال ، ثم التوجيه الشرعي الدائم من ملازمة سؤال أهل العلم من ناحية , وطلب العلم الشرعي من ناحية أخرى قبل أن يتصدر الإنسان للفتوى والتعصب للأحكام المغلوطة . والغريب أن المبتدع نفسه، ومن اقتنع بقوله، يقرأ بنفسه مدى مخالفته لأقوال أهل العلم الكبار في شرح الدليل , ولا يحرك ذلك في نفسه ساكناً , تمسكاً بدليل عجز عن فهمه وإدراك ما به من دلالة , بل عجز عن التوفيق بينه وبين سائر الأدلة الواردة في ذات الموضوع، وتعصب لرأيه وسد عن نفسه منافذ الفهم والعلم . وهكذا أهل البدع والضلال المحرومون التوفيق .
في ذكر بعض ما ثبت في حق أهل
الابتداع من الأوصاف المحذورة
ونذكر في هذا الفصل بعض ما في البدع من الأوصاف المحذورة والمعاني المذمومة وأنواع الشؤم الذي يصيب صاحب البدعة ومن شايعه وأواه , وقد ذكر الشاطبى في ذلك سبعة عشر معنى تنال صاحب البدعة إلا أن يراجع ، نلخصها في الآتى , وعلى من يهمه الأمر أن يراجع تفاصيلها وبيان شروحها وأدلتها في مواضعها وبالله التوفيق فمما ذكره رحمه الله : ([6])
1- أن البدع لا يقبل معها عبادة من صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا غيرها من القربات .
2- ومجالس صاحبها تنزع منه العصمة ويوكله الله إلى نفسه .
3- والماشي إليه وموقره مُعين على هدم الإسلام فما الظن بصاحبها .
4- وهو ملعون على لسان الشريعة ، وملعون من يأويه أو يشايعه .
5- ويزداد من الله بعداً بعبادته .
6- والبدعة مظنة إلقاء العداوة والبغضاء بين الإخوان .
7- وهى مانعة من الشفاعة المحمدية يوم القيامة .
8- وهى رافعة للسنن التي تقابلها .
9- وعلى مبتدعها إثم من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً .
10- وليس له توبة ، على الغالب .
11- وتلقى عليه الذلة والغضب من الله .
12- ويُبعد عن حوض رسول الله (r) .
13- ويخاف عليه أن يكون معدوداً من الكفار الخارجين من الملة .
(وهذا إذا لم تكن بدعته كفرية في ذاتها)
14- ويخاف عليه من سوء الخاتمة .
15- ويسود وجهه في الآخرة ويعذب في النار .
16- وقد تبرأ منه رسول الله (r) وتبرأ منه المسلمون .
17- ويخاف عليه الفتنة في الدنيا زيادة إلى عذاب الآخرة .
فهذه سبعة عشر خصلة مذمومة وخطة مشئومة تحيط بأصحاب البدع حرية بأن يتحرى المرء لدينه ويتبع ولا يبتدع وكما قالوا : (اقتصاد في طاعة خير من اجتهاد في ضلالة )
ولولا تكاسل أهل العلم والخاصة عن النظر فيما يصلح عقائد الناس ودينهم , إضافة إلى غلبة الجهل على عوام الناس والتماس الأعذار لهم بالجهل , ما وجد أمثال هؤلاء المنحرفين مجالاً لدعوتهم . وقد كان لغلبة الجهل على طوائف الناس عامة حقلاًُ فسيحاًُ في انتشار أوجه الضلال فلم يفرقوا بين السنة والبدعة , ولا بين ما هو شرك أو إسلام. بل انقلب الحال حتى أصبحت السنة في أعين كثير من الناس هي عين البدعة , وأصبح معالم عقيدة التوحيد تطرف و شذوذ , فقد انقلب الحال , وبدل الناس أكثر ما كانوا عليه , ونسوا حظاًُ مما ذكروا به , فأغرى الله تعالى بينهم العداوة والبغضاء , فقام الناس في غير موضع القيام , بل قاموا ليأخذوا على أيدي كل من دعا إلى العقيدة الصحيحة ونادي بالسنن الكريمة , وفي ذات الوقت الذي ناصر فيه هؤلاء الناس معالم الشرك والتبديل للديانة والبدع , فاستقاموا إلى غير مستقيم . وما كان ذلك إلا لجهلهم بما أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه واتبعوا قول كل أفاك أثيم من أمراء وأحبار ورهبان ممن لبسوا جلود الضأن على قلوب الذئاب، فعم الداء وعدم الأطباء حسبما جاءت به الأخبار، ومن ذلك :
_ قول رسول الله r ( بدأ الإسلام غريباًُ وسيعود غريباًُ كما بدأ , فطوبى للغرباء ) .
_ وقوله r من حديث العرباض بن سارية ( .. فأنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافاًُ كثيراًُ .. ) الحديث
_ ومنها قول حذيفة رضى الله عنه : ( والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا ما بين هذين الحجرين من النور , والله لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيئاًُ قالوا تركت السنة ) .
_ ومنها قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( كيف أنتم إذا ألبستم فتنة يهرم فيها الكبير وينشأ فيها الصغير , تجرى على الناس يحدثونها سنة , إذا غيرت قيل : هذا منكر ) . أ.هـ
)فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)( الرعد
انتهي
والحمد لله وحده
والصلاة والسلام علي من لا نبي بعده
([1] ) راجع تفسير ابن كثير لآية في سورة آل عمران .
([2] ) الاعتصام . الشاطبي جـ2 الباب التاسع المسألة 18 صــ 477.
([3] ) الاعتصام . الشاطبي جـ 2 صـ 479 .
([4] ) الاعتصام . الشاطبي صــ 484.
([5] ) وانظر كيف انتكس حال صاحب هذه البدعة الكفرية من الدعوة إلى التوحيد ومجانبة الشرك وأهله ، إلى حال المدافع عن أبناء المشركين والباذل جهده ووقته وطاقته في الانتصار لهم بكل حيلة ، وهذا من تزيين الشيطان وكيده .
(1) متفق عليه أخرجه البخارى في كتاب الاعتصام ومسلم في كتاب الحج .
(1) الشاطبى . في الاعتصام ، جـ2 ، صـ392 .
([6] ) الاعتصام . الشاطبي . الباب الثاني ، صـ80 .