عماد الدين علاق
طاقم الكتاب الحصريين
- رقم العضوية :
- 39830
- البلد/ المدينة :
- زريبة الوادي
- المُسَــاهَمَـاتْ :
- 2299
- نقاط التميز :
- 3257
- التَـــسْجِيلْ :
- 29/03/2012
الجزء 4
دخلت نورا غرفتها ،أقفلت الباب على نفسها لأيام ...
وفي ساعة متأخرة من ليلة ممطرة ،سمعت طرقا غريبا على باب البيت ، ذهب أخوها سالم لفتح الباب ،ولمّا فتحه
وجد رجال الشرطة، الذين دخلوا البيت وصاروا يبحثون عن علي في كل مكان ، وحين رآهم ... ولّى هاربا ،
لكن الشرطة لاحقته وقبضت عليه ...
اغتنمت نورا الفرصة حين رأت الجميع منشغلين، فدخلت غرفة والدها، أخذت بعض الدراهم
و خرجت من البيت متسللةً كي لا يراها أحدا هاربة من سجن ملت منه، إلى حياة لا تعرف عنها سوى القليل ..
أوقفت سيارة أجرة ،ركبت ورحلت بعيدا ...
سألها السائق :إلى أين ؟
_خذني في جولة بالمدينة ،ثمّ أوصلي إلى ملجأ لأقيم فيه..!
لم يفهم السائق فقال : أين يقع ذلك الملجأ يا ابنتي ؟!!
_ لا أدري ، فأنا لا أعرف في المدينة سوى سوقا واحدا ،أشتري منه الملابس! وعيادة واحدة ،أذهب إليها حين أمرض!
وسجن واحدا ،وهو بيت والدي ..!!
وملجئا واحدا ،وهو مخيلتي، ألتجئ إليها هاربة من واقعي المرير.!!
و بعد ساعة من جولة داخل المدينة، أوقفت السائق ، نزلت من السيارة...
و صارت تتمشى في الشوارع والأزقة ،باحثة عن مكان يؤويها ،على أمل أن لا يكون سجنا آخر مثل السجن الذي هربت منه !
وحين كانت تتمشى ... ظهرت فجأة سيارة سوداء اللون ووقفت بالقرب منها ،
خرج رجلان وأمسكا بها ، ثمّ أرغماها على ركوب تلك السيارة ، صرخت اتركوني ،
ابتعدوا عني ، من أنتم ؟!! هيا اخبروني .. هل والدي أرسلكم لتعيدوني إلى.......!!
لم يردوا عليها، بل قام أحدهم بضربها على رأسها، وفقدت الوعي..
انطلقوا إلى جهة مجهولة، لمّا فتحت عينيها، وجدت نفسها فجأة في غابة مهجورة، ومحاطة بذئاب بشرية متوحشة!
صرخت .. بكت .. استنجدت، توسلت منهم الرحمة، لكن هيهات، فالذئاب، ذئاب .. ولو كانوا على شكل بشر!
أمسك بها أحدهم، فعضته من يده، أفلتها من شدة الألم الذي أحس به، فهربت ،
وصارت تركض وكأنها في سباق ... لحقوا بها، لكنهم لم يتمكنوا منها، استطاعت الفرار والابتعاد عن المكان ،
ولم تتوقف عن الركض إلاّ حين أنهكها التعب، وتأكّدها من الابتعاد عن أولئك الأشرار ...
وقفت لتأخذ نفسا ، نظرت حولها، فلم تجد سوى الأشجار ...
والتي تبدو على شكل شياطين في الظلمة الحالكة ...
تاهت نورا داخل الغابة المهجورة، وشهقت وهي تبكي حتى انقطع نفسها، واستسلمت للموت المحتّم،
ظنّا منها أنها النهاية ... فالظلام والغربة ، وأصوات خشخشة الأعشاب،
و أوراق الشجر وهي تحركها الرياح ... كل هذا يمنح المكان سمّة الرعب المميت ....
جلست تحت شجرة كانت قريبة منها، وصارت تبكي حظها، وتئنّ من شدّة الألم
بسبب الخدوش التي أصيبت بها، من جراء أغصان الأشجار ..
مرت الليلة المظلمة على نورا مثل كابوس مرعب ... لم تتوقعه في حياتها!
ولم تتخيله في أحلام اليقظة التي عاشت فيها سنين ...!!
وأدركت في قرارة نفسها، أنها أخطأت حين هربت من المنزل، فإن كان ذلك سجنا!
فالشارع غابة مظلمة ! ووحوشها أشباح...!!
وأدركت أيضا أنها أخطأت حين بنت قصورا من رمال ، في مدينة الأحلام العجيبة !
وعاشت هناك بفكرها وخيالها ، وصارت حياتها أساسها الأوهام والحب والغرام ..!!
وكل شيء تصورته لا وجود له ... والآن لا تشعر سوى بالغربة والضياع، وهي وحيدة في غابة مهجورة
تتجرع كأس السمّ الذي أذاقه لها أشباح الظلام ..!!
تحولت في لحظات إلى إنسانة مدمّرة ، محطمة الفؤاد والجسد،واخترق الألم شريانها ، وتغلغل الخوف داخلها ،
واهتزت ثقتها بنفسها... وأصابتها رعشة، حتى صارت ضلوعها مفتتة خوفا من المجهول!
وأحست بالاغتراب بين الذات والروح !! وتجرعت مرارة لم تعلم بوجودها من قبل ...
فهي التي عاشت في القصور، لا تعرف عن العالم غير ما قرأت في قصص الغرام والخيال.....
وملكت كل شيء! إلاّ الحنان والرحمة والحرية و السلام الروحي ...
وفي الصباح أشرقت أشعة الشمس، وهي مازالت في مكانها ممسكة بحجارة، استعدادا لمعركة ما،
أو مواجهة من خطفها ...
وصدفة مرّ أحد حارس الغابة بالمكان، لمّا رآها ، استغرب من رؤية امرأة في الغابة وحيدة
وقف واقترب منها ليسألها من تكون وما تفعل هناك ...
حين رأته قالت له : إيّاك أن تقترب مني !! وهددته بالحجارة ...
_ لا تخافي أنا حارس هنا أقوم بواجبي ...
إن كنت تحتاجين لمساعدة سأقدمها لك...
وسألها قائلا: قولي يا أختاه ماذا تفعلين هنا ؟؟!!
_ لقد ضللت الطريق!
وردد صوت داخلها...
أجل ضللت الطريق..! ولكن أي طريق ؟!! أهو طريق الحياة ؟! أم طريقا آخر ..!!
أرادت أن تخبر الحارس بالحقيقة، لكنها لم تجرأ، فضلت الصمت خوفا من الفضيحة ..!!
لا تريد أن يعرف أحدا بما حدث حتى لا يصاب والدها بصدمة قاتلة، وتكون سببا في موته ..
تمعن الحارس فيها ، وفهم أنّ هناك شيئا ما تخفيه ، فحالتها مزرية، الخدوش تملأ وجهها، ويدها اليمنى تنزف ...
أخرج هاتفه واتصل بالإسعاف، وبعد لحظات وصل المسعفون، وتمّ نقلها إلى المستشفى...
حين وصلت... خرجت من السيارة على قدميها، تتحدى نفسها، رغم الألم الذي يمزق أوصالها
قائلة للمسعفين: لا أعاني من شيء، إنها مجرد خدوش بسيطة.!
وهي تتمشى في ممرات المستشفى، لمحت إخوتها الثلاثة، أمّا الأخ الصغير فلم يكن معهم
تقدمت نحوهم مع أحد المسعفين ..
وحين اقتربت، لمحها سالم فقال صارخا بصوت يشابه الأنين: نورا ... نورا أين كنت يا مجنونة ؟!!
هيا قولي أين ذهبت ؟!
نظرت إليه بلهفة، ومن دون شعور، رمت نفسها بين أحضانه...
_ أنا ضائعة، ضائعة يا أخي..!
نزلت الدموع من عينيه، ولم يدر ما يقول لها، عانقها بقوة وقال: أختي ... والدنا يحتضر .. إنه يموت...
وأخونا الصغير ... آه يا نورا ماذا أقول لك، آه ثمّ آه .... لقد مات...مات ليلة أمس .. مات ..
حين سمعت ذلك صدمت! ابتعدت عنه ...
_ أحقا ما تقول ؟!! ولكن كيف حدث هذا ؟ كيف ؟!
قال والوجع يمزق أحشاءه: حين قبضت الشرطة على علي، طلب منّي والدي مناداتك، أراد محادثتك...
اتجهت إلى غرفتك، فلم أجدك، وبينما كنت أتجول بين الغرف باحثا عنك،
سمعت صوتا ينبعث من غرفة أخونا ...
ولمّا فتحت باب الغرفة، وجدته ممدودا على الأرض، والرغوة خارجة من فمه! وبالقرب منه حشيش ومخدرات ...
آه ..ثمّ آه ... لو تعلمين ماذا حدث حين رآه والدنا في تلك الحالة....
لم يصدق أنّ ابنه المدلل يتعاطى المخدرات..!
صار يصرخ ، ويصرخ.. قائلا: ليس ابني من ينتحر .. لا .. لا .. ليس ابني ..
مستحيل أن يكون صغيري يتعاطى المخدرات ..!!
و فجأة أصيب بنوبة قلبية، ثمّ هوى على الأرض ....
امتلأت مقلتاها بالدموع وقالت وهي تحدث نفسها : أ حدث هذا في ليلة واحدة ؟؟؟!!
واا عجباه ! تركت البيت الذي كان سجنا لي ، فتحول كل شيء إلى سواد..!
وانهار ذاك السجن على والدي ..!!
واا أسفاه على والدي! إنّي أشفق على حاله وحالي! وأخي الحبيب المدلل مات...
أيّ مصيبة حلت على بيتنا، على سجني الذي كان ..!!
أمسكت سالم من كتفيه بكلتا يديها وقالت بصوت نحيب: قل لي يا سالم ، كيف هو والدنا الآن ؟!!
هل تجاوز مرحلة الخطر ؟؟!
حرك رأسه _ لا أدري ...لا أدري يا نورا ...
أبعدها عنه قائلا: لما أنت متسخة ؟!!
لما ملابسك رثّة؟!
وكأنّك كنت تمرغين بالتراب ؟!!
_ لقد سقطت في حفرة ! وأنا لا لم أتوقع يوما السقوط في الحفر..! ولم أتعلم كيف أتفاداها..!
قال متعجبا: في أي حفرة سقطت ؟!! وأين ؟!
_ سقطت في حفرة عميقة، لم أعلم بوجودها يوما.!!
ربما أكبر من عميقة! ومكان الحفرة لا أعلم عنه شيئا..!!
أخذت تنهيدة وقالت: ألن يسمحوا لي برؤية والدي ؟؟
_ تعالي معي لآخذك لرؤيته..
تدخل المسعف قائلا: ألن تذهبي لتلقي العلاج ؟!
_حاليا كل ما أحتاج إليه هو أن أداوي جرح الروح والنفس! وهذا لن يكون إلا برؤية والدي ...
وبأخذي جرعة من دواء اسمه الصبر! هذا إن كان موجودا ..
دخلت الغرفة، نظرت إلى والدها من بعيد، لم تجرأ على الاقتراب ، أحست أنّ الجدار الذي بناه والدها تحطم!
لكنها لم تقدر على عبوره ، وقفت تنتظر إشارة منه!!
فنادى عليها بصوت خافت .. نورا .. نورا... اقتربت، مسكت يده ودنت نحوه...
أرادت أن تقول له: سامحني يا والدي على هروبي من البيت..! لكنها لم تستطع، ابتلعت تلك الكلمات،
حتى جف حلقها! و لم ترفع نظرها عن الأرض، غرقت عيونها بالدموع...
فقال لها: انظري إليّ يا نورا !
رفعت رأسها، نظرت إليه، وفي عينيها كلمات، مع إحساس مختلط بحسرات، والدمعة تسري من عيناها..
ابتسم الأب ابتسامة صفراء وقال: اعذريني بنيتي .. لم أمنحك ما تستحقين من العاطفة والحنان .. و ...
سكت قليلا، وهمس مودعا... أسامحك ... ولكن لا تعيديها ...
ألقى بنظره إلى السقف، ثمّ أغمض عيناه للمرة الأخيرة ، وإلى الأبد...
دخلت نورا غرفتها ،أقفلت الباب على نفسها لأيام ...
وفي ساعة متأخرة من ليلة ممطرة ،سمعت طرقا غريبا على باب البيت ، ذهب أخوها سالم لفتح الباب ،ولمّا فتحه
وجد رجال الشرطة، الذين دخلوا البيت وصاروا يبحثون عن علي في كل مكان ، وحين رآهم ... ولّى هاربا ،
لكن الشرطة لاحقته وقبضت عليه ...
اغتنمت نورا الفرصة حين رأت الجميع منشغلين، فدخلت غرفة والدها، أخذت بعض الدراهم
و خرجت من البيت متسللةً كي لا يراها أحدا هاربة من سجن ملت منه، إلى حياة لا تعرف عنها سوى القليل ..
أوقفت سيارة أجرة ،ركبت ورحلت بعيدا ...
سألها السائق :إلى أين ؟
_خذني في جولة بالمدينة ،ثمّ أوصلي إلى ملجأ لأقيم فيه..!
لم يفهم السائق فقال : أين يقع ذلك الملجأ يا ابنتي ؟!!
_ لا أدري ، فأنا لا أعرف في المدينة سوى سوقا واحدا ،أشتري منه الملابس! وعيادة واحدة ،أذهب إليها حين أمرض!
وسجن واحدا ،وهو بيت والدي ..!!
وملجئا واحدا ،وهو مخيلتي، ألتجئ إليها هاربة من واقعي المرير.!!
و بعد ساعة من جولة داخل المدينة، أوقفت السائق ، نزلت من السيارة...
و صارت تتمشى في الشوارع والأزقة ،باحثة عن مكان يؤويها ،على أمل أن لا يكون سجنا آخر مثل السجن الذي هربت منه !
وحين كانت تتمشى ... ظهرت فجأة سيارة سوداء اللون ووقفت بالقرب منها ،
خرج رجلان وأمسكا بها ، ثمّ أرغماها على ركوب تلك السيارة ، صرخت اتركوني ،
ابتعدوا عني ، من أنتم ؟!! هيا اخبروني .. هل والدي أرسلكم لتعيدوني إلى.......!!
لم يردوا عليها، بل قام أحدهم بضربها على رأسها، وفقدت الوعي..
انطلقوا إلى جهة مجهولة، لمّا فتحت عينيها، وجدت نفسها فجأة في غابة مهجورة، ومحاطة بذئاب بشرية متوحشة!
صرخت .. بكت .. استنجدت، توسلت منهم الرحمة، لكن هيهات، فالذئاب، ذئاب .. ولو كانوا على شكل بشر!
أمسك بها أحدهم، فعضته من يده، أفلتها من شدة الألم الذي أحس به، فهربت ،
وصارت تركض وكأنها في سباق ... لحقوا بها، لكنهم لم يتمكنوا منها، استطاعت الفرار والابتعاد عن المكان ،
ولم تتوقف عن الركض إلاّ حين أنهكها التعب، وتأكّدها من الابتعاد عن أولئك الأشرار ...
وقفت لتأخذ نفسا ، نظرت حولها، فلم تجد سوى الأشجار ...
والتي تبدو على شكل شياطين في الظلمة الحالكة ...
تاهت نورا داخل الغابة المهجورة، وشهقت وهي تبكي حتى انقطع نفسها، واستسلمت للموت المحتّم،
ظنّا منها أنها النهاية ... فالظلام والغربة ، وأصوات خشخشة الأعشاب،
و أوراق الشجر وهي تحركها الرياح ... كل هذا يمنح المكان سمّة الرعب المميت ....
جلست تحت شجرة كانت قريبة منها، وصارت تبكي حظها، وتئنّ من شدّة الألم
بسبب الخدوش التي أصيبت بها، من جراء أغصان الأشجار ..
مرت الليلة المظلمة على نورا مثل كابوس مرعب ... لم تتوقعه في حياتها!
ولم تتخيله في أحلام اليقظة التي عاشت فيها سنين ...!!
وأدركت في قرارة نفسها، أنها أخطأت حين هربت من المنزل، فإن كان ذلك سجنا!
فالشارع غابة مظلمة ! ووحوشها أشباح...!!
وأدركت أيضا أنها أخطأت حين بنت قصورا من رمال ، في مدينة الأحلام العجيبة !
وعاشت هناك بفكرها وخيالها ، وصارت حياتها أساسها الأوهام والحب والغرام ..!!
وكل شيء تصورته لا وجود له ... والآن لا تشعر سوى بالغربة والضياع، وهي وحيدة في غابة مهجورة
تتجرع كأس السمّ الذي أذاقه لها أشباح الظلام ..!!
تحولت في لحظات إلى إنسانة مدمّرة ، محطمة الفؤاد والجسد،واخترق الألم شريانها ، وتغلغل الخوف داخلها ،
واهتزت ثقتها بنفسها... وأصابتها رعشة، حتى صارت ضلوعها مفتتة خوفا من المجهول!
وأحست بالاغتراب بين الذات والروح !! وتجرعت مرارة لم تعلم بوجودها من قبل ...
فهي التي عاشت في القصور، لا تعرف عن العالم غير ما قرأت في قصص الغرام والخيال.....
وملكت كل شيء! إلاّ الحنان والرحمة والحرية و السلام الروحي ...
وفي الصباح أشرقت أشعة الشمس، وهي مازالت في مكانها ممسكة بحجارة، استعدادا لمعركة ما،
أو مواجهة من خطفها ...
وصدفة مرّ أحد حارس الغابة بالمكان، لمّا رآها ، استغرب من رؤية امرأة في الغابة وحيدة
وقف واقترب منها ليسألها من تكون وما تفعل هناك ...
حين رأته قالت له : إيّاك أن تقترب مني !! وهددته بالحجارة ...
_ لا تخافي أنا حارس هنا أقوم بواجبي ...
إن كنت تحتاجين لمساعدة سأقدمها لك...
وسألها قائلا: قولي يا أختاه ماذا تفعلين هنا ؟؟!!
_ لقد ضللت الطريق!
وردد صوت داخلها...
أجل ضللت الطريق..! ولكن أي طريق ؟!! أهو طريق الحياة ؟! أم طريقا آخر ..!!
أرادت أن تخبر الحارس بالحقيقة، لكنها لم تجرأ، فضلت الصمت خوفا من الفضيحة ..!!
لا تريد أن يعرف أحدا بما حدث حتى لا يصاب والدها بصدمة قاتلة، وتكون سببا في موته ..
تمعن الحارس فيها ، وفهم أنّ هناك شيئا ما تخفيه ، فحالتها مزرية، الخدوش تملأ وجهها، ويدها اليمنى تنزف ...
أخرج هاتفه واتصل بالإسعاف، وبعد لحظات وصل المسعفون، وتمّ نقلها إلى المستشفى...
حين وصلت... خرجت من السيارة على قدميها، تتحدى نفسها، رغم الألم الذي يمزق أوصالها
قائلة للمسعفين: لا أعاني من شيء، إنها مجرد خدوش بسيطة.!
وهي تتمشى في ممرات المستشفى، لمحت إخوتها الثلاثة، أمّا الأخ الصغير فلم يكن معهم
تقدمت نحوهم مع أحد المسعفين ..
وحين اقتربت، لمحها سالم فقال صارخا بصوت يشابه الأنين: نورا ... نورا أين كنت يا مجنونة ؟!!
هيا قولي أين ذهبت ؟!
نظرت إليه بلهفة، ومن دون شعور، رمت نفسها بين أحضانه...
_ أنا ضائعة، ضائعة يا أخي..!
نزلت الدموع من عينيه، ولم يدر ما يقول لها، عانقها بقوة وقال: أختي ... والدنا يحتضر .. إنه يموت...
وأخونا الصغير ... آه يا نورا ماذا أقول لك، آه ثمّ آه .... لقد مات...مات ليلة أمس .. مات ..
حين سمعت ذلك صدمت! ابتعدت عنه ...
_ أحقا ما تقول ؟!! ولكن كيف حدث هذا ؟ كيف ؟!
قال والوجع يمزق أحشاءه: حين قبضت الشرطة على علي، طلب منّي والدي مناداتك، أراد محادثتك...
اتجهت إلى غرفتك، فلم أجدك، وبينما كنت أتجول بين الغرف باحثا عنك،
سمعت صوتا ينبعث من غرفة أخونا ...
ولمّا فتحت باب الغرفة، وجدته ممدودا على الأرض، والرغوة خارجة من فمه! وبالقرب منه حشيش ومخدرات ...
آه ..ثمّ آه ... لو تعلمين ماذا حدث حين رآه والدنا في تلك الحالة....
لم يصدق أنّ ابنه المدلل يتعاطى المخدرات..!
صار يصرخ ، ويصرخ.. قائلا: ليس ابني من ينتحر .. لا .. لا .. ليس ابني ..
مستحيل أن يكون صغيري يتعاطى المخدرات ..!!
و فجأة أصيب بنوبة قلبية، ثمّ هوى على الأرض ....
امتلأت مقلتاها بالدموع وقالت وهي تحدث نفسها : أ حدث هذا في ليلة واحدة ؟؟؟!!
واا عجباه ! تركت البيت الذي كان سجنا لي ، فتحول كل شيء إلى سواد..!
وانهار ذاك السجن على والدي ..!!
واا أسفاه على والدي! إنّي أشفق على حاله وحالي! وأخي الحبيب المدلل مات...
أيّ مصيبة حلت على بيتنا، على سجني الذي كان ..!!
أمسكت سالم من كتفيه بكلتا يديها وقالت بصوت نحيب: قل لي يا سالم ، كيف هو والدنا الآن ؟!!
هل تجاوز مرحلة الخطر ؟؟!
حرك رأسه _ لا أدري ...لا أدري يا نورا ...
أبعدها عنه قائلا: لما أنت متسخة ؟!!
لما ملابسك رثّة؟!
وكأنّك كنت تمرغين بالتراب ؟!!
_ لقد سقطت في حفرة ! وأنا لا لم أتوقع يوما السقوط في الحفر..! ولم أتعلم كيف أتفاداها..!
قال متعجبا: في أي حفرة سقطت ؟!! وأين ؟!
_ سقطت في حفرة عميقة، لم أعلم بوجودها يوما.!!
ربما أكبر من عميقة! ومكان الحفرة لا أعلم عنه شيئا..!!
أخذت تنهيدة وقالت: ألن يسمحوا لي برؤية والدي ؟؟
_ تعالي معي لآخذك لرؤيته..
تدخل المسعف قائلا: ألن تذهبي لتلقي العلاج ؟!
_حاليا كل ما أحتاج إليه هو أن أداوي جرح الروح والنفس! وهذا لن يكون إلا برؤية والدي ...
وبأخذي جرعة من دواء اسمه الصبر! هذا إن كان موجودا ..
دخلت الغرفة، نظرت إلى والدها من بعيد، لم تجرأ على الاقتراب ، أحست أنّ الجدار الذي بناه والدها تحطم!
لكنها لم تقدر على عبوره ، وقفت تنتظر إشارة منه!!
فنادى عليها بصوت خافت .. نورا .. نورا... اقتربت، مسكت يده ودنت نحوه...
أرادت أن تقول له: سامحني يا والدي على هروبي من البيت..! لكنها لم تستطع، ابتلعت تلك الكلمات،
حتى جف حلقها! و لم ترفع نظرها عن الأرض، غرقت عيونها بالدموع...
فقال لها: انظري إليّ يا نورا !
رفعت رأسها، نظرت إليه، وفي عينيها كلمات، مع إحساس مختلط بحسرات، والدمعة تسري من عيناها..
ابتسم الأب ابتسامة صفراء وقال: اعذريني بنيتي .. لم أمنحك ما تستحقين من العاطفة والحنان .. و ...
سكت قليلا، وهمس مودعا... أسامحك ... ولكن لا تعيديها ...
ألقى بنظره إلى السقف، ثمّ أغمض عيناه للمرة الأخيرة ، وإلى الأبد...